الدليل اللساني عند فرديناد دي سوسير

أ. يونس ادشيش
من خلال محاضرات له "دروس في اللسانيات العامة" والتي نشرها بعض طلبته سنة 1916م استطاع فرديناند دي سوسير أن يغيّر منحى الدرس اللساني بإرسائه أسسا نظرية ومنهجية، صارمة وأولية لدراسة الظاهرة اللغوية في بعض جوانبها (ضبط الأدوات المفهومية). فكان له أن أحدث قطيعة ابيستيمولوجية مع التراث اللغوي، ومن تمّ إحداث أنموذج جديد Paradigme غيّر به أنموذجا سابقا عليه (الاتجاه الفيلولوجي الذي يدرس النصوص المكتوبة لغايات وصف التاريخ الأدبي والعادات، مدرسة النحاة الجدد الذين تركزت اهتماماتهم في المقام الأول على وضع القوانين الصوتية). 
وجدير بالذكر في مقامنا هذا أن نشير إلى مسألة مهمّة وهي؛ أن الحديث عن اللسانيات السوسيرية اليوم هو حديث باعتبار دورها التاريخي، وليس حديثا في سياق علمي محض، لأن ما وصلت إليه اللسانيات اليوم قد تعدى الوصف -ويعدّ ما جاء به سوسير جزءا منه- والتفسير إلى ما وراء التفسير، ولا ينفي هذا الكلام الدور التي قامت به لسانيات سوسير، بل على العكس من ذلك تماما؛ لأن أعمال دي سوسير كانت وستظل ذات أهمية بالغة لمن يَهمّ بوُلوج علم اللسانيات؛ بحيث لا يمكنه الخوض فيه ولا في قضاياه دونما تمثل لأسس اللسانيات السوسيرية واستيعابها.
وذلك لما أثارته في وقتها من مواضيع أبكارًا ناقشت أفكارا وثنائيات شكلت أبرز محاور اللسانيات السوسيرية (فكرة اللسان بعتباره نسقا، ثنائية التزامنية والتعاقبية، ثنائية لسان كلام، ثنائية العلاقات الترابطية والعلاقات المركبية، الدليل اللساني وثنائية دال مدلول، ثنائية اللسانيات الداخلية واللسانيات الخارجية، ثنائية دلالة قيمة).
وسنخصص الحديث فيما يلي من هذه المقالة عن الدليل اللساني عند دي سوسير؛
- مفهومه؟
- خصائصه؟
1- مفهوم الدليل اللساني عند دي سوسير
في بداية حديثه عن الدليل اللساني Le signe linguistique  ينتقد دي سوسير الرأي القائل بأن اللغة في جوهرها هي مجرد عملية لتسمية الأشياء ليس إلا، ويضرب مثالا برسم لشجرة وحصان وتسمياتهما "شجرة" "حصان"، معتبرا أن الاعتقاد ببساطة هذا الفعل في النظام اللغوي لا أساس له من الصحة (1). ويستدل على قصور هذا الرأي بنقاطٍ أهمها:
- زعمه وجود الأفكار معدّة مسبقا عن الأشياء.
- لا يعطي معلومات عن التسمية هل هي صوتية أم نفسية.
- الإقرار بأن اللغة هي مجرد لائحة من المفردات التي توافق عددا مماثلا من الأشياء الموجودة في
   الواقع الخارج-لغوي، وأن الدلائل اللسانية هي مجرد علامات عن الأشياء ذاتها (2).
ليُعرف بعد ذلك الدليل اللساني بقوله:
’’ إن الدليل اللساني لا يجمع بين شيء واِسم، وإنما يجمع بين مفهوم وصورة سمعية. وهذه الأخيرة ليست هي الصوت المادي، أي شيء فيزيائي خالص، بل هي بصمة نفسية لهذا الصوت وهو التمثيل الذي تقدمه عنه حواسنا (*)، إنه شيء حسي. ‘‘ (3)
والدليل على ذلك -على حد تعبيره- أن الإنسان في كثير من الأحيان قد يتحدث إلى نفسه دون حاجة إلى نطق أصوات حديثه، كأن يتغنى بقصيدة في ذهنه أو ما شابه ذلك.

إذن، فالدليل اللساني كيان نفسي بوجهين كما هو موضّح في الشكل التالي:         مفهوم
                                                                                     صورة سمعية                                                                      
وعنصرا الدليل، المفهوم والصورة السمعية، مرتبطان بشكل وثيق؛ بحيث كل واحد منهما يوحي بالآخر. إن القارئ لمحاضرات دي سوسير يتضح له جليًّا تدقيقه لمصطلح "دليل"، إذ يعني به تلك الوحدة المكوَّنة من مفهوم وصورة سمعية مميّزا له بذلك عن التصور العام الذي لا يعدّه سوى صورة سمعية (4). ولمعالجة هذا الإشكال المصطلحي المفاهيمي احتفظ سوسير بمصطلح "دليل" Le signe قاصدا به مجموع هذين المكونين؛                             مدلول
       دليل                  دال
ثم استبدل المفهوم  بالمدلول Signifié، والصورة السمعية بالدال Signifiant (5).
وحري بالذكر هنا أن عنصرا الدليل يتكون كل واحد منهما من شقّين:
1-جانب مادي وينضوي على:
- الموجود الخارجي أو الشيء.
- اللفظ المنطوق بالفعل الذي يتألف من أصوات واقعية.
2-جانب ذهني ويضم:
- المفهوم أو الصورة الذهنية للموجود الذي يشار إليه بلفظ معين.
- الصورة السمعية، أي صورة اللفظ نفسه التي نتمثلها إذا نظرنا إلى كلمة ما مكتوبة دون أن ننطق بها.
إلا أن سوسير يذهب إلى استبعاد الجانب المادي للدليل اللساني بشقيه المذكورين في دراسته، في حين نجده يُبقي فقط على الجانب الذهني، لأن دراسة الصورة السمعية أو الذهنية حسب نظرة دي سوسير تجعلنا ندرس وحدات متميّزة محدودة، بنيما لو درسنا الشق المادي لهذه الصورة لتعرضنا لصور فردية غير محدودة، فمثلا: وحدة النون في اللغة العربية لها في أسماعنا صورة ذهنية واحدة. غير أن لها في الواقع المنطوق عدة صور فعلية تختلف بحسب موقع ما قبلها أو بعدها من وحدات، أو لاعتبارات أخرى مثل محاولتك النطق بالنون فيما يلي: سنبلة – عنبر، فالصورة الذهنية يمكن أن نكتبها كما فعلنا هنا مع الكلمات السابقة ولكن الصورة الفعلية الذهنية لهذه النون لا نستطيع كتابتها (6).
2-خصائص الدليل اللساني                                                                                 
وصف دي سوسير الدليل اللساني بخاصيتي؛ الاعتباطية والخطية.
فأما 1-الاعتباطية، فهي اعتباطية العلاقة بين الدال والمدلول، ومعنى ذلك أنها غير معلّلة Immotivé، ومثال ذلك: فكرة “أخت”  soeurفي اللغة الفرنسية التي لا تربطها أية علاقة داخلية مع المتوالية الصوتية [s oe u r] التي تعد دالا بالنسبة إليها. وخير دليل يؤكد هذه الخاصية هو اختلاف الدوال من لغة إلى أخرى، فللمدلول "ثور" الدال [boef] في الفرنسية و [oks] في الألمانية (7).
ويعود سوسير لتوضيح مبدأ الاعتباطية بقوله: " ينبغي أن لا يوحي لفظ اعتباطي بفكرة أن الدال يخضع للاختيار الحر عند الذات المتكلمة... ونقصد باعتباطي كونه غير معلل، فهو اعتباطي بالنسبة للمدلول الذي لا تربطه به أية صلة في الواقع " (8).
ومعنى ذلك أن عملية التسمية ليست مسألة اختيارية تتوقف على الاختيار الحر للمتكلم، وذلك لأن الفرد ليس بمقدوره أن يغير أي شيء في العلامة المستعملة قديما لدى جماعة لغوية. فاللغة بهذا المنظور إرث لمراحل سابقة يخضع لها الفرد وتُفرض عليه. وإن كان الأمر كذلك يحق لنا أن نطرح السؤال التالي: كيف يمكن تحديد تلك الفترة التي يخترق فيها متكلم اللغةِ اللغةَ؛ فيبتكر مصطلحات جديدة أو يعدل أخرى لم ترقه وذلك وفقا لميولاته العلمية أو الشخصية؟ (*) ومن الانتقادات التي وجّهت لسوسير حول قضية الاعتباطية بين الدال والمدلول هي؛ الكلمات التي تُعد العلاقة بين دالها ومدلولها علاقة معللة وهو ما يعرف في العربية وغيرها بأسماء الأصوات (خرير – لحيف – نهيق..)، وألفاظ التعجب. فالأولى (أسماء الأصوات) يذهب سوسير إلى ان حضورها في اللغة حضور هامشي بمعنى أنها تحتل قسما صغيرا داخل اللغات. أما الثانية (ألفاظ التعجب) فيستدل على بطلان التعليل بين دالها ومدلولها بكون دوالها تختلف من لغة إلى أخرى (9).
وفي توضيح آخر له يميز سوسير الدليل اللساني عن الرمز؛ وذلك لتوفر هذا الأخير على توافق بين داله ومدلوله (10)، فإذا كانت الحمامة رمزا للسلام وليس النسر أو الديك فهذا راجع إلى خصائصها الطبيعية والتي ترسّخت في الثقافات البشرية، ونفس الأمر بالنسبة للميزان التقليدي الذي يرمز به للعدالة دون غيره من وحدات القياس المتعارف عليها، فجعله -هو بالتحديد- رمزا للعدالة راجع إلى خصائصه التقنية التي تقضي بتسويته لكفّتيه في مستوى واحد، فنقلت هذه الخاصية إلى الثقافة البشرية وأصبح يرمز به للعدالة.
2-الخطية:
تقتصر هذه الخاصية على الدال لوحده؛ أي الصورة السمعية. وبما أن الدال شيء مسموع فهو يظهر إلى الوجود في حيّز زمني وتُستمد منه هاتين الصفتين:
1) يمثل فترة زمنية وبالتالي هو عبارة عن امتداد
2) هذا الامتداد قابل لأن يقاس ببعد واحد هو الخط
ويختلف الدال السمعي عن الدال البصري في أن الدال البصري يوفر إمكانية قيام مجموعات على عدة أبعاد في آن واحد في حين أن الدال السمعي له بعد واحد فقط وهو البعد الزمني. وعناصر الدال السمعي تظهر على التعاقب، فهي تؤلف سلسلة. وتتضح هذه الخاصية عندما نعبر عن الدال كتابة، فيحل الخط المكاني لعلامات الكتابة محل التعاقب الزمني (11).
بعد الحديث عن مفهوم الدليل وخصائصه عند فرديناند دي سوسير نختم مقالنا هذا بالقول: إنه لمن الضروري أن يُؤخذ بعين الاعتبار عند التقويم النقدي لما جاءت به "دروس عامة في اللسانيات"، أن الأمر يتعلق بشبه نظرية انتُشلت من بضع دروس وبعض الجذاذات الشخصية لسوسير. وهذا لا يعني بالضرورة أن كل ما وصلنا عن دي سوسير هو بالضبط ما كان يرمي إليه بنفسه. وبالرغم من ذلك كله، فقد شكل ما وصلنا باسم سوسير مفتاحا لأبواب تقليدية كانت من العسارة بمكان أن يتجرأ أحد على فتحها. وإنه لمن العيب أن يُقبِل طالب كيف ما كانت لغته على علم اللسانيات دون تمثل لقضايا وأسس اللسانيات البنيوية.

الهوامش:
*- ومعنى ذلك أن الأصوات كمعطى فيزيائي ما هي إلا مجرد انعكاس لتلك الصورة السمعية.
*- من القضايا التي تهتم بها اللسانيات التطبيقية في فرعها المتعلق بالصناعة المصطلحية (آليات التوليد المُصطلَحيّ؛ الوضع – التوليد الصوري – التوليد الدلالي ..).

المراجع:

1, Saussure, Ferdinand. Cours de linguistique générale, Bublié par Charles Bally et Albert Sechehaye; avec la collaboration de Albert Riedlinger. Paris: Payot, 1972, p: 97.
2- قنيني، عبد القادر. مترجم، محاضرات في علم اللسان العام، المغرب، أفريقيا الشرق، 1987، ص: 84.
3- 
3- قنيني، المرجع السابق، ص: 118.
-  Saussure. Ibid, p: 99. 4
- Ibid, p: 88 – 99.5
6- شنوقة، السعيد. مدخل إلى المدارس اللسانية، مصر، الكمتبة الأزهرية للتراث، 2008، ص: 51.
7- الراضي، محمد. مترجم، النظريات اللسانية الكبرى، لبنان، المنظمة العربية للترجمة، 2012، ص: 122.
8- السابق نفسه، الصفحة نفسها.
10- 
9- Saussure. Ibid, p: 106 – 107.
10- Ibid, p: 101.
11- قنيني، المرجع السابق، ص: 89.