العربية .. بحر العلوم والبيان

د. الطيب عطاوي

 

لا تزال اللغة العربية إلى غاية اليوم تضرب للناس أروع الأمثال وأنبل الكلام ، كيف لا وهي التي كان صيتُها ذائعاً في آفاق الأرض ؛ مشرقها ومغربها ، فاستحقت أن تكون تاجاً فوق رؤوس أصحابها ، ونبراساً في خطبهم ووصاياهم ؛ بل وحياتهم كلها .

إن العربية مهما قيل عنها من نفائس ورُوِي عنها من عظائم لا يسع الكلام هنا من أن يفيها حقها .. نقول هذا الكلام ليس من باب العاطفة أو التحيُّز للعربية ، إنما هو التاريخ الذي أنطق حقائقها وبيَّن للناس فضائلها ؛ فارتوت من سُحب جواهرها عقولٌ ، وأقرَّت بسحر بيانها ألسنةٌ ، وكتبت عن عجائب بلاغتها أقلامٌ ، فكانت بذلك مثالًا يُحتذى به للغاتٍ كانت بالأمس القريب ميتة ، فنهلت منها وامتلأ قاموسها من عجائبها ، فأضحت لغات حيَّة وانزوت العربية على نفسها بعد مسيرة حافلة بالعطاء ، فأمست بعدما كانت الحادي لتلك اللغات واللهجات تئنُّ حالها وتستعطف أبناءها ليرجعوا إليها ويُخرجوها من قمقم اللكنات الأعجمية والرطنات الغريبة ، ويا ليتهم فعلوا ..
إن القارئ لتاريخ العربية وما فعلته في الضمائر والنفوس يتبيَّن له أن هذه اللغة لم تكن كسائر اللغات في تركيبها ونسجها وسبكها ؛ بل حتى أصواتها وحروفها سحرت الكُتَّاب والنُظـَّام ؛ عربهم وعجمهم ؛ فأبدعوا في استخراج مكنوناتهم وشعوراتهم .. إنها العربية تفعل بأصحابها ما لا تفعله غيرها .
كم يحكي لنا التاريخ عن عظمة هذه اللغة وسر بقائها رغم المحن والإحن التي مرَّت بها الأمة العربية ، لم تفقد العربية أثناءها من حسنها وجمالها ؛ بل ظلت شامخة شموخ النخيل في واحاتها ، وبقيت بقاء الحجارة في وديانها ، فلم تتأثر بعاديات الزمن ، ولا ضربات العدو نالت من كبريائها وقدسيتها .
لقد حاول الاستدمار الأجنبي في القرون الماضية أن ينال من الشعوب العربية في لغتها بكل ما أتيح له من وسائل دون جدوى ، ولا استطاع أيضاً بمكره وخُدَعِه أن يزحزح عزيمة أبنائها ؛ كونهم تفطنوا لحِيَلِهِ ومراوغاته فكانوا أشد من ذي قبل تمسكاً بجدائلها وحبائلها .
لكن ما بالها اليوم هذه العذراء الشريفة تُغزى في دارها وتُفتضُّ في خِدرها ؟! .. ما بالها اليوم يهجرها أبناؤها ويستبدلون بها غيرها وكان آباؤهم من قبلهم لا يقوون على ردِّ سِحرها ؛ بل يقفون صامتين في حضرة جمالها  ؟! 
أين الخلل يا أبناء العرب ؟ ..
ما بالها تلك الحروف لم تعد تستهوي أفئدتكم ، ولا تلك الأصوات رجع صداها في دواخلكم ، ولا تلك الألفاظ هزت نواديكم ، ولا تلك الكتب التي وصلت إليكم أثَّرت في نوازعكم  ؟! 
ما بالنا اليوم نغفل عنها وقد كانت تطعمنا وتسقينا  ؟! .. ألهذه الدرجة صرنا نتسوَّل بغير أغطيتها أمام أعجامٍ نتسابق لمخاطبتهم بلغاتهم وفي عربيتنا ما يُغنينا عن رطانتهم ولكناتهم  ؟! ولقد صوَّر الشافعي من قبل هذا الوضع حين قال : » ما جهل الناس ، ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب ، وميلهم إلى لسان أرسطو طاليس « . 
العربية تاج العرب منذ الأزل البعيد ، فجَّرت ينابيع البلاغة وجمال النظم منذ عصر الجاهلية ، فجاءت قصائدٌ مطوَّلةٌ انبهر في حسن أبياتها النقاد ، وارتمى في بحر قوافيها الأدباء ، وأعجِب بفحوى مضامينها الخلفاء والوزراء والأمراء ، فظلوا ردحاً من الزمن يعقِدون مجالس للأُنس والغناء ، ومجالس للإفتاء وحل المسائل الفقهية ، وأخرى للمسائل النحوية وتخريجاتها ؛ ففَتَقَت بذلك ألسنٌ ، وارتوت من طربها لُحونٌ ، وسبحت في مياهها أسفُنٌ ، فكانت العربية في خضمِّ هذا كله بحرٌ لا ضِفاف له ينهل من عُشَّاقها كل بديع ، ويرتمي على شطآنها كل نزيع ، فشربوا جميعهم ماءها النقيع .  
ثم ما لبثت مدة من الزمن أن سطعت بنورها الوهَّاج على أروبا وهي تعجُّ في ظلمات الجهالة وحُمق الفكرة وسوء السياسة ، فلم تستطع أن تقف لصدِّ أفكارها ولا استطاعت أن تقاوم سحرها ؛ فدخلت عنوة في صدور أبنائها (أروبا) واستهوت أفئدتهم ؛ فانبروا يُحاكون أسلوبها ، ويغرفون من نفائسها ، فعادوا لبلدانهم وهم ملأى الأفئدة ، ثم ما انفكَّت مجموعات منهم أن عادوا للبلاد الإسلامية متعطِّشين للمزيد ، وأضحوا يتقلَّبون بين ألفاظها وجُملِها، عباراتها وفقراتها ؛ فاستحسنوا ما وجدوه بها ، ولم يستطيعوا إلا أن يعترفوا ويُقِرُّوا بما تحويه من كنوز لا يفهم حقائقها إلا من ارتوت نفسه من ينابيعها ، واستنشق قلبه من ورودها ، واحتمى شخصُهُ بأكنانها ، مما جعل علماء الغرب ومفكِّريهم ؛ قديمهم وحديثهم ؛ يشهدوا على عظمة هذه اللغة ؛ قال الألماني "يوهان فك" :  »لقد برهن جبروت التراث العربي الخالد على أنه أقوى من كل محاولةٍ يُقصَدُ بها زحزحة العربية الفصحى عن مقامها المسيطِر « ، والفرنسي "ويليام مرسيه" قال عنها : » العبارة العربية كالعود إذا نقرتَ على أحد أوتاره رنَّت لديك جميع الأوتار وخفقت ، ثم تحرك اللغة في أعماق النفس من وراء حدود المعنى المباشر موكباً من العواطف والصور « ، بينما يصفها الفرنسي "لويس ماسينيون" بأنها أدخلت في الغرب طريقة التعبير العلمي والفني والصوفي .
أما المستشرقة الألمانية "زيغريد هونكه" في كتابها (شمس العرب تسطع على الغرب) تقول عنها » كيف يستطيع الإنسان أن يُقاوم جمال هذه اللغة ومنطقها السليم وسحرها الفريد ؟ فجيران العرب أنفسهم في البلدان التي فتحوها سقطوا صرعى من سحر تلك اللغة « .
وقال عنها البلجيكي "جورج سارتون" :  »إن اللغة العربية أسهل لغات العالم وأوضحها ، فمن العبث إجهاد النفس في ابتكار طريقة جديدة لتسهيل السهل ، وتوضيح الواضح ، فإذا فتحت أيَّ خطاب فلن تجد صعوبة في قراءة أردإ خطٍّ به ، وهذه هي طبيعة الكتابة العربية التي تتسم بالسهولة والوضوح « . 
إنه مهما قيل وقيل وقيل لا يسعنا إلا الوقوف بإجلال أمام حضرة صاحبة الجلالة "اللغة العربية" نُغرِّد لها بصوتٍ واحدٍ عربيٍّ قُحٍّ :
                        أنتِ البحرُ في أحشائِهِ الدُرُّ كامنٌ                   فهل ساءلوا الغوَّاص عن صدفاتِك