شمس العربية تشرق

أ. محمد الباهلي

 

كتب كثيرون حول أهمية اللغة ودورها المؤثر في صناعة الأمة وفي تكوين وعيها الحضاري والتنموي، وفسروا ذلك من خلال البنى اللسانية للغة ومقوماتها الأساسية التي تعكس صورة الثقافة ونمط الوعي، علاوة على التكوين النفسي والاجتماعي والسياسي لأصحاب اللغة. ولعل تحليل اللغة العربية يقودنا إلى المنهج الإيجابي لفهم الحضارة العربية، والذي جعل أغلب المؤرخين المهتمين بهذه اللغة يجتهدون في العمل على دراستها وتشخيصها وتفسيرها، حيث نجد ذلك واضحاً في كتاب «جيرالد جيمس تومر» الذي أصدر طبعتَه العربيةَ «المجلسُ الوطني للثقافة والفنون والآداب» في الكويت مؤخراً وفي جزأين.

المؤلف حاول في هذا الكتاب أن يشرح لنا قيمة اللغة العربية وكيف أنها ليست لغة عادية، بل لغة عالمية غنية بكل ما يجعلها سيدة اللغات. كما حاول من خلال تتبعه لهذه اللغة ودراستها أن ينتقل بنا إلى أعماقها مبيناً الكنوز الثرية التي تحتويها، ما جعلها تصبح اللغة الأساسية لتدريس العلوم في أوروبا عموماً وإنجلترا خصوصاً، لاسيما الفلك والكيمياء والفيزياء والطب والعلوم الأخرى، خلال القرن السابع عشر.

يتوقف بنا «تومر» عند خصوصية اللغة العربية وخلودها، ويركز على إنجازاتها الكبيرة في المجال العلمي، وكيف استفاد الغربيون من هذه الإنجازات، ما جعل أحد الأكاديميين البريطانيين في جامعة أكسفورد يخصص من ماله الخاص وقفاً لكرسي اللغة العربية في الجامعة. كما دعا أحد الخبراء في حينه، واسمه «ريتشارد دعي»، إلى تدريس العربية في جامعة أكسفورد وكامبردج، معدداً الفوائد التي سوف يجنيها من ذلك طلاب الطب بصفة خاصة. وبالفعل فقد تم إقرار اللغة العربية في الكثير من الجامعات الأوروبية، وتم إنشاء منصب الأستاذية لتدريسها في جامعات باريس وأكسفورد وبولونيا وسلامانكا، وأصبح أغلب المترجمين المهمين في تلك الفترة من الإنجليز، وكان ينظر إلى علماء المسلمين بشيء كبير من التوقير والإجلال.
كتاب «حكمة الشرق وعلومه.. دراسة العربية في إنجلترا في القرن السابع عشر»، لمؤلفه جيرالد جيمس تومر، يعد من الدراسات المهمة والنادرة التي بذل مؤلفها الكثير من الجهد لإبراز تاريخ الفكر وتاريخ الترجمة، وهما من المجالات التي تحتاج مستوى عالياً من البحث العلمي، وقد ركز على دراسة العربية في إنجلترا خلال القرن السابع عشر، لأنه من أهم القرون في التاريخ الأوروبي عامة والتاريخ البريطاني خاصة، إذ في هذه الفترة بدأت الأمة الإنجليزية تشق طريقها نحو النهوض والتقدم وبدأت تتجاوز عصر النهضة بما فيه من تقلبات وتغيرات نحو عصر الحداثة الفعلي. ومن الطبيعي أن تكون العربية هي النقطة الجوهرية والمحور الأساسي لذلك التحول، وأن نجد أوروبا عامة وبريطانيا خاصة تقيم علاقات تجارية قوية مع عالم إسلامي قوي ينشر الأنوار الثقافية والعلمية في بقاع كثيرة، وكانت أوروبا عموماً وبريطانيا خصوصاً متعطشة للعلوم العربية.

وفي البعد الديني يذكر المؤلف كيف غيرت الكنيسة موقفها من تدريس اللغة العربية، حتى قال أحد رجالها (الكنيسة): فليقرأ المسيحيون هذه اللغة كي يدركوا احترام المسلمين لعقيدتهم ولغتهم وحفاظهم على شعائرهم وإخلاصهم في أدائها وغيرتهم عليها وسرعتهم في نجدة الفقراء وحفاظهم على نظافة دور عبادتهم وتوقيرهم للكبار وطاعتهم لعلماء الدين.. حتى أن السلطان العثماني نفسه لا ينفذ أمراً من دون العودة إلى مفتي الديار.

وفيما تراجع اهتمام العرب بلغتهم العربية، يبين لنا هذا الكتاب كيف كانت هذه اللغة واحداً من أسباب نهضة الأمم الأخرى، بينما يتيه عرب اليوم إعجاباً باللغات الأخرى، دون أخذ بالأسباب الحقيقية لتطور بلدان تلك اللغات ومجتمعاتها. وما يزال بعض العرب يكرر الخطأ ذاته في كل مرة يدور فيها النقاش حول اللغة العربية وحول استخدامها في الحياة العامة، لذلك فقد تخلفوا عن ركب الحضارة والتقدم.
 

الاتحاد