المغرب على أعتاب جدل جديد حول لغة التعليم العمومي

حسن السوسي

 

عقدت ندوة فكرية مؤخرا في مدينة طنجة شمال المغرب حول "الأمازيغية ومثقفيها" لتعيد من جديد الجدل الذي لا ينتهي في المملكة المغربية حول موقع اللغة في المنظومة التربوية.

وطرحت ندوة الأمازيغية ومثقفيها بعدا جديدا من أبعاد هذه القضية التي يصعب فيها القول الفصل. فالتعليم يعتبر من أكبر تحديات المرحلة الراهنة في الدول العربية. واللغة المعتمدة في التعليم تقع في صلب هذا التحدي، منذ حصول العديد من الأقطار العربية على الاستقلال السياسي قبل بضعة عقود.

وقد شكلت لغة التعليم قطب جذب في المغرب بين تيارين كبيرين منذ البداية: تيار يمثل الأغلبية يرى أن استكمال الاستقلال السياسي له بعد لغوي وثقافي أيضا، ومدخله إعادة الاعتبار للغة العربية التي عرفت تهميشا مقصودا من طرف الاستعمارين الفرنسي والإسباني في البلاد، وهو ما ليس ممكنا دون تعميم التعليم وتعريب لغته في مختلف مستوياته وأسلاكه.

أما التيار الثاني فيرى أن أي عملية تعريب في الظروف الخاصة بالمغرب اليوم مآلها الفشل الذريع، وأن اعتماد اللغة الفرنسية أساسا، في هذا المجال، مكسب لا ينبغي التفريط فيه بأي شكل من الأشكال لأنه ضامن لانفتاح الناشئة على العالم وسبيل لتفادي التقوقع على الذات واجترار ثقافة لم يعد لها ما يبررها في عالم الْيَوْمَ.

ولم تكن مسألة الثقافة الأمازيغية مطروحة على جدول أعمال المعنيين بلغة التعليم في تلك الفترة انطلاقا من تصور سائد يفيد بأن المشكلة مطروحة بالنسبة للعلاقة مع اللغة الفرنسية لغة المستعمر أساسا.

وقد اعتمدت الدولة في المغرب منهجا تركيبيا تم فيه الاحتفاظ، في البداية، باللغة الأجنبية في مختلف المواد العلمية والعلوم الإنسانية حتى منتصف سبعينات القرن الماضي الذي عرف موجة تعريب كبيرة طالت مادة الفلسفة والمواد العلمية وغيرها حيث تم التعامل مع اللغات الأجنبية باعتبارها لغات من الدرجة الثانية أو الدرجة الثالثة في البرامج التعليمية.

وتم الاحتفاظ في الوقت نفسه بالشعب الخاصة باللغات الأجنبية بهدف تكوين المدرسين الذين يتقنون اللغات الأجنبية وخاصة بعد الاستغناء عن المتعاونين الفرنسيين واعتماد التعليم الابتدائي والثانوي على الأطر المغربية الوطنية بشكل حصري.

غير أن الحسم العام لفائدة التعريب لم يكن له أن يقضي على الدعوات إلى إعطاء أهمية أكبر للغات الأجنبية، لكن ما هو لافت للانتباه حصول نوع من التخبط في معالجة هذا الملف من وزارة إلى أخرى مما كانت له انعكاسات سلبية اعترف بها الجميع، كل بطريقته، على مستوى التعليم كمّا وكيفا خلال السنوات اللاحقة.

وقد عرف هذا الملف خلال السنوات الأخيرة تطورات هامة أولها اعتماد اللغة الأمازيغية في المدارس العمومية المغربية وتشجيع استخدامها في مختلف الدوائر الرسمية خاصة بعد دسترتها باعتبارها لغة وطنية إلى جانب اللغة العربية.

الجميع يرى أن هناك بونا شاسعا بين الاهتمام باللغة العربية الدارجة واللهجات المحلية وبين اعتمادها لغة للتدريس في المغرب
وقد ألقى المثقفون والناشطون الأمازيغيون المشاركون في ندوة طنجة اللوم في ما يخص تهميش اللغة الأمازيغية لسنوات على أحزاب الحركة الوطنية المغربية ومثقفيها لموقفهم السلبي من الأمازيغية حيث قال بعضهم: إن مرده طبيعة الثقافة والأيديولوجيا التي كانت توجه الحركة الوطنية الفكرية، الأمر الذي حول التعريب إلى سياسة مجحفة في حق الأمازيغية ومحاولة ربط المغرب بالمشرق.

وتستدعي مداخلات عدد من المساهمين في الندوة وقفة تمحيصية نقدية لأنها تنطوي على مواقف مسبقة أو غير دقيقة من تناول هذه المسألة وهو ما سيكون موضوع معالجة مستقلة عندما يتم نشر أعمال ندوة طنجة الفكرية.

ثانيا، برزت دعوات اتسعت دائرتها شيئا فشيئا إلى اعتماد اللهجة المغربية في التدريس باعتبارها اللغة الأم ويتم التحدث بها في البيوت بدل العربية الفصحى التي تكاد تصبح لغة أجنبية خاصة بالنسبة للأطفال.

وقد أثار هذا التوجه ردود فعل مثيرة وحادة من قبل أوساط ثقافية وسياسية عديدة رأت فيه نوعا جديدا من الاختراق الثقافي الأجنبي والتقليل من شأن لغة الأمة التي لا يمكن الحديث عن أي تقدم دون تقدمها وهذا ما حال دون اعتماد الدارجة المغربية في التعليم.

ولا يرى جل المغاربة وخاصة الطبقة السياسية والمثقفة مانعا في الاهتمام بمختلف اللهجات المحلية بل واللغات الأجنبية لما يمكن أن تساهم به من تطوير لأساليب التواصل والانفتاح على الثقافات العالمية والمحلية، في آن واحد. إلا أن الجميع يرى أن هناك بونا شاسعا بين الاهتمام باللغة العربية الدارجة واللهجات المحلية وبين اعتمادها لغة للتدريس بالمغرب. فبقدر ما يعتبر الاهتمام باللهجات المحلية أمرا جيدا يتم رفض اعتمادها لغة للتدريس.

وقد عرف هذا الموضوع مطالعات سياسية في مختلف وسائل الإعلام المغربية شكلت المناظرة بين المفكر المغربي عبدالله العروي وعيوش، زعيم اتجاه اعتماد الدارجة لغة للتدريس في الأقسام الابتدائية وصاحب معجم باللهجة الدارجة المغربية، واحدة من بين المحطات القوية التي عرفها هذا الجدل والصراع.

وينبغي الانطلاق في النظرة الإيجابية إلى الاهتمام بالدارجة من منطلق ثقافي أدبي وفني، ذلك أنها تشكل الخزان الأساسي لتجارب العديد من الشرائح الاجتماعية من الشعب المغربي، سواء منها التي تتقن العربية الفصحى أو التي إلمامها بهذه الأخيرة متواضع أو شبه منعدم. ومن هذه الزاوية، فإن الاهتمام بها لا يؤثر سلبا على اللغة العربية الفصحى، بل يساعد متحدثي الدارجة على التفاهم والتواصل في ما بينهم بشكل أفضل من السابق.

الأمر الذي من شأنه أن يسمح بإقامة نوع من الجسور الواصلة بين النخب التي تتحدث وتكتب باللغة الفصحى وأوسع شرائح المجتمع التي تعتمد الشفوي ومختلف ألوان الشعر والقصص الشعبي فضلا عن أن الاهتمام بها يسمح بتوثيق المنتوج الأدبي الشفوي الشعبي الذي تزخر به مختلف مناطق المغرب.

غير أن إيجابيات هذا الاهتمام تنحو منحى الانعدام تماما، كلما تم إدماجه في إطار إستراتيجية مناوئة للغة العربية الفصحى، كما يدل على ذلك العمل على جعلها لغة للتربية والتعليم. ذلك أن هذا التوجه الذي نراه سائدا في عدد من الجامعات الغربية حيث يتم تعليم اللهجات المحلية بدلا عن الفصحى أحيانا قد يجد له مبررا ما إذا كانت الفئة المعنية به هي فئة مواطني بلدان أخرى غير ناطقة بالعربية، ولو أنه من المؤكد كونه مندرجا في سياق تعميق الخلافات بين ناطقي الضاد من مداخل اللهجات المختلفة بين مجتمع وآخر وبين منطقة وأخرى كما يرى معارضو هذا التوجه.

العَرب