الضعف في اللغة العربية - 2

د. محمد سعيد حسب النبي

 

عرضنا في مقال سابق أسباب الضعف في اللغة العربية في رأي الكاتب الراحل أحمد أمين، حيث أشار إلى أمر يتصل بالمعلمين كان سبباً في هذا الضعف، وهو مناهج الدراسة والامتحانات والتفتيش؛ فمناهج تدريس اللغة العربية متحجرة برغم ما يبدو من مدنيتها وأناقتها، وضرب على ذلك مثلاً وهو منهج قواعد اللغة العربية والبلاغة، حيث تجد أنهما –إذ ذاك- لا يزالان هما بعينيهما منهجي سيبويه والسكاكي على الرغم من زخرفتهما، فالتقسيم الذي قسمه سيبويه في النحو، والتعاريف التي وضعها، والمصطلحات التي ذكرها هي هي في كتب المدارس، وكل ما حدث حتى في الكتب التي ألفت هو ذكر الأمثلة الرشيقة وتبسيط الشرح، ولكن لم يُبذل مجهود موفق في معالجة النحو على أساس جديد كضم مسائل متعددة إلى أصل واحد حتى يسهل على الطلبة فهمها وتحصيلها، وكوضع مصطلحات جديدة أقرب إلى الفهم ونحو ذلك. وضرب أحمد أمين مثلاً على ذلك فيما نراه في أجروميات اللغات الحية الأخرى؛ فأجرومية اللغة الفرنسية أو الإنجليزية اليوم تخالف –في الجوهر- ما كانت عليه منذ عشرين سنة فضلاً عن قرن وقرنين.

ومصيبتنا في البلاغة أعظم –كما أشار أحمد أمين- فهو يرى أن برامجنا لا توحي بلاغة، ولا تربي ذوقاً؛ فماذا تفيد دراسة "الفصل والوصل" على هذا المنهج إلا تكرير مصطلحات فارغة ككمال الاتصال، وكمال الانقطاع، وشبه كما الانقطاع، وشبه كمال الاتصال؟ وأي أديب يراعي ذلك عند كتابته، ومتى كانت هذه المصطلحات الفارغة وسيلة لرقي الذوق الأدبي؟
كما أشار إلى أن برامجنا في الأدب ليست بأقل سوءاً من هذين؛ حيث نضع في البرنامج أول الأمر مسائل فلسفية وقواعد في النقد وتاريخ الأدب في العصور المختلفة قبل أن يلم الطالب بجمهرة كبيرة من الأدب يقرؤها ويحفظها ويتذوقها، وبذلك نقدم له نتائج من غير مقدمات، ونصعده على السطح من غير سُلم. 
والذين يضعون البرامج يكلفون وضعها في أسبوع أو أسبوعين أو شهر أو شهرين، وماذا على وزارة المعارف لو كلفت من يضع لها البرامج المستقبلة في سنتين أو أكثر على ألا توضع إلا بعد دراسة عميقة، ثم تنشر في الجرائد والمجلات وتتقبل الاعتراضات عليها ويعمل بالصالح منها، ثم تثبت الوزارة العمل بها عهداً طويلاً حتى تتم تجربتها؟
ثم الامتحانات أمرها غريب –في رأي أحمد أمين- فمع هذا الضعف الذي نسمعه في كل مكان تظهر نتيجة الامتحانات في اللغة العربية باهرة، والرسوب فيها نادر؟ فشيء من شيئين: إما أن تكون الشكوى في غير محلها، وهذا ما لا يسلم به عاقل، أو تكون الامتحانات على غير وجهها، وهذا ما يقوله كل عاقل. وسبب هذا السوء في الامتحان كثير؛ فنظريات النحو واسعة تحتمل أن يكون لكل خطأ تأويل من الصواب، ومنها عدم تقدير ورقة الامتحانات في جملتها حتى يصح أن يرسب الطالب إن أتى بخطأ شنيع في موضع ولو أصاب في مواضع أخرى؛ ومنها الرحمة والشفقة في التصحيح، ولو زالت هذه الرحمة سنة من السنوات وأدرك الطالب ما تعامل به ورقته من الحزم في الامتحان لخدم هذا الموقف اللغة العربية في المدارس جملة سنين.
ثم يعرض أحمد أمين لنظام التفتيش في عصره؛ فيشير إلى أن المفتش معذور؛ فهو كالقاضي يطبق مواد القانون ولا يشرعها، فعليه أن ينظر كم موضوعاً إنشائياً كتبه الطلبة، وهل هذا يتناسب مع العدد المقرر في السنة، وهل ترك المدرس كلمة خطأ في كراسة الطالب من غير أن يصححها، وهل أساء المدرس إساءة كبرى فاستعمل مفردات عصرية مثل: "التليفون" و"الراديو"، أو على العموم استعمل كلمة ليست في "القاموس المحيط" أو "لسان العرب"، وهل نجح المدرس في تعليمه اللغة العربية لطلبته، وما الوسائل التي استعملها، وهل تقدم الطلبة في القراءة والكتابة؟ وما ينبغي أن يدرس هنا أو لا يدرس، وما العوامل في الرقي باللغة العربية؟ وكلها أمور يرجع أمرها إلى واضع المنهج وليس إلى المفتش.
والسبب الثالث الذي أدى إلى الضعف في اللغة العربية فهو المكتبة العربية؛ فالحق أنها مكتبة ضعيفة فاترة –كما يرى أحمد أمين- وهي مائدة ليست دسمة ولا شهية ولا متنوعة الألوان. والحق أيضاً أن القائمين بإحضارها لم يجيدوا طهيها؛ فدار العلوم التي خرّجت الألوف من أبنائها هل أجادت في إخراج الكتب النافعة المختلفة الألوان والموضوع؟ أو هي قصرت كل التقصير فأخرجت من الكتب ما لا يتفق وعدد خريجيها ومنزلتهم في الحياة الاجتماعية والأدبية؟
والأزهر –وهو أقدم عهداً وأعرق أصلاً- لم يشترك في التأليف الحديث اشتراكاً جدياً، ولم يساهم بالقدر الذي كان يجب عليه، ولم يعرف عقلية الناس في العصر الحديث حتى يخرّج لهم ما هم أشد الحاجة إليه.
وكلية الآداب لم تؤد رسالتها في هذا الموضوع كاملة، واتجهت أكثر ما اتجهت إلى الثقافة الخاصة لا العامة. فمكتبتنا في كل نواحيها ناقصة من ناحية الأطفال، ومن ناحية الجمهور، ومن ناحية المتعلمين، وحسبك أن تقوم بسياحة في مكتبة أفرنجية وأخرى في مكتبة عربية لترى الفرق الذي يحزنك، ويبعث في نفسك الخجل والشعور بالتقصير.
ماذا يقرأ الطفل في بيته وفي عطلته؟ وماذا تقرأ الفتاة في بيتها؟ وأين الروايات الراقية التي يصح أن نضعها في يد أبنائنا وبناتنا؟ وأين الكتب في الثقافة العامة التي نزيد بها معلومات الجمهور؟ وأين الأدب القديم المبسط؟ وأين الأدب الحديث المنشأ؟ الإجابة عن هذه الأسئلة يعرفها كل قارئ. وواضح أن اللغة لا ترقى بكتبها في قواعد النحو والصرف والبلاغة بمقدار ما ترقى بالكتب الأدبية ذوات الموضوع. 
ولعلي هنا أوجز مقترحات العلاج لحل هذه المشكلة من وجهة نظر أحمد أمين، حيث يرى أن زيادة الحصص للغة العربية، وتوسيع مكتبة التلميذ ليس كافياً ولا شافياً، والعلاج الحقيقي يكمن في إصلاح المعلم والمناهج والمشرفين التربويين. إضافة إلى إصلاح معاهد إعداد المعلم، وإعادة النظر في نظامها وبرامجها بالاستعانة بالمثقفين والمفكرين ومتخصصي المناهج المميزين.  كذلك يجب التوسع في الدراسات الدينية من قرآن وحديث وما إلى ذلك، مع الحرص على تعليم لغة أجنبية. ورفع معدل النجاح في معاهد إعداد المعلمين؛ فلا يسمح لضعيف أو متوسط بأن يتخرج في هذه المعاهد. ومن عوامل الإصلاح أيضاً تنقية المناهج من الموضوعات العقيمة، وتبسيط المصطلحات، والاقتصار على ما ينتج استقامة اللسان والقلم، ويترك ما عدا ذلك للخاصة. ودراسة مناهج اللغات الأخرى للاستفادة منها. وتغيير وجهة النظر حول الامتحان؛ فطلابنا اعتادوا أن يقرأوا للامتحان، ويتعلموا للامتحان، وبقدر صعوبة الامتحان والتشديد فيه تكون عناية الطلبة. والامتحان في اللغة العربية معيب؛ فورقة الامتحان في أغلب شأنها نظرية لا عملية، وتعتمد على الذاكرة والحفظ أكثر مما تعتمد على التفكير والعمل، واللغة أداة للتعبير، والغاية منها تقويم القلم واللسان، فيجب أن يرمي الامتحان إلى هذه الغاية. أما عن الإشراف التربوي؛ فعلى المشرف أن يعلم أن مهمته الأولى هي توجيه المعلم إلى تحقيق الغرض من دراسة اللغة العربية، والوصول بالطلبة والمعلمين والمناهج إلى أرقى حد مستطاع، وبمقدار تحقيق هذا الغرض أو عدم تحقيقه يكون الحكم على قيمة المشرف. 
إن صلاح اللغة العربية في المدارس مرهون بصلاح منظومة المعلم والمنهج والامتحان والإشراف. وإن الوهن في عنصر من عناصرها يرسخ الضعف فيها ويعززه.