الخصومة في الأدب - 1

د. محمد سعيد حسب النبي

 

كانت الخصومة بين الأدباء دائماً نعمة على الأدب وإن كانت نقمة أحياناً على الأدباء أنفسهم. فالخصومة في كثير من الأحيان وكما أشار أحمد أمين هي التي تنتج الأديب وتهيج مشاعره وتطلق لسانه، وفي تاريخ الأدباء الشيء الكثير من ذلك، فقديماً كان الشاعر العربي يهجو القبيلة ويعيّرها ويجسم مثالبها ويقلب حسناتها سيئات؛ فتتلفت يمنة ويُسرة تنظر من يدافع عنها، ويصد كيد عدوها، فتفعل هذه اللفتة في المستعد المتهيء فعل السحر، فإذا للقبيلة من يروض نفسه على القول، ويعدها للنضال ويطلق لسانه بالقول وإذا هو شاعر. ولولا هذا الهجاء وهذه الخصومة لكان إنساناً كسائر الناس لا شاعراً كسائر الشعراء. وضرب أحمد أمين مثلاً على ذلك أن عبدالله نديم أطلق لسانه بالقول في رجل دعاه ليعلم أولاده ثم أكل عليه أجره، فأخذ يعمل لسانه في هجوه فإذا هو هجاء، وإذا هو أديب، وإذا هو كاتب وشاعر.

ثم الخصومة هي التي أورثتنا باباً كبيراً من أبواب الأدب هو باب الهجاء، فلولا الخصومة ما كانت نقائض جرير والفرزدق ونقائض جرير والأخطل. ولا كانت أهاجي بشار وأبي نواس وابن الرومي وغيرهم من الهجائين، وكثير ما هم، ولحرمنا ما أبدعوا في هجائهم من صور فنية هي غاية في الروعة والإتقان، تثير في النفس الهزء والسخرية حيناً، والضحك حيناً، والإعجاب من مصورها حيناً، ولو فقدت هذه الصور لكانت كارثة على الأدب ولفقد ركناً كبيراً من مقوماته. 
ثم هذه الروايات الكثيرة في الأدب الغربي التي وضعت لنقد كاتب أو هدم آرائه، والتي وضعت لنقد فكرة والسخرية بها وبواضعيها ومؤيديها، كل هذه ما كانت لولا الخصومة الأدبية، وكلها ثروة كبيرة من ثروة الأدب لا غنى عنها، ولا حياة له بدونها.
والنقد في رأي أحمد أمين صورة من صور الخصومة، شريفة أحياناً وغير شريفة أحياناً، وإن كان النقد في قليل من أوقاته مدحاً وتقريظاً فهو في كثير من أحيانه عيب وتجريح، ويضيف أحمد أمين؛ وليس يشك شاك في نعمة النقد على الأدب، فهو الذي بخصومته يهاجم الأدباء في شدة وعنف فيبين أغاليطهم، ويوضح ضعفهم، ويظهر عيوبهم، فإذا هم حذرون يجيدون خوف النقد، ويحاولون أن يتبرءوا من العيوب خوف النقد، وينشدون الكمال خوف النقد، فإذا خرج نتاجهم كاملاً أو قريباً من الكمال فالفضل في ذلك للنقد. وفي كل عصر تنشأ خصومة حادة عنيفة بين رجال الأدب من أنصار القديم وأنصار الجديد يتجادلون ويتسابون، وجدالهم وسبابهم أدب، وينقسم الناس إلى معسكرين: أنصار المجددين وأنصار المحافظين، ويحمل كل فريق أقلامهم فيجيدون ويمتعون، فيكسب الأدب من هذه المعارك مكسباً مزدوجاً، مكسباً من ناحية ما يقال في هذه المعارك من هجاء وتعنيف وسب وخصام، ومكسباً من ناحية ما يكسبه المجددون من توجيه الأدب وجهة جديدة، وإدخال عناصر فيه جديدة، ولولا ذلك لظل هيكل الأدب كهيكل الأهرام تمر عليها الدهور والأعوام وهي في شكلها ومادتها، ولكان أدب اليوم كما يرى أحمد أمين هو الأدب الجاهلي، ولكان أدب الغرب اليوم هو أدب القرون الوسطى، فلولا ثروة المجددين والخصومة بين الأدباء لما تقدم الأدب خطوة، ولظل على حالته كما تركه الأولون، وهذا إجمال نعمة الخصومة على الأدب كما يرى أحمد أمين.