لغتي العربية .. خُلِقتِ مبرَّأةً من كلِّ عيبٍ

د. الطيب عطاوي


لا تزال اللغة العربية بشموخها تعطي أروع البيان في قوة الحرف والكلمة على الرغم مما يُحاك ضدها في العديد من الأمكنة من هذا العالم المتلئب ، لا تزال وهي ضاحكة مستبشرة تقول للعالم بأسره : أنا سيِّدة اللغات ولا فخر ! 

إن تاريخ اللغات يشهد شهادة لا ريب فيها كيف أن العربية استطاعت من بين أخواتها الساميات أن تقاوم الزمن وتصمد في وجه عادياته التي عصفت بالكثير من اللهجات واللغات ، فهي كما نطقها الأوائل بقيت اليوم متماسكة ؛ فعلى الرغم من تشعب لهجاتها إلا أنها مفهومة بين الناس في الأقطار العربية ؛ في حين أن العديد من لغات العالم اليوم تكاد تنقطع صلتها بلغتها الأم (اللاتينية على سبيل المثال) » فاللغة العربية من أكثر اللغات انسجاماً ؛ وهي لا ريب مختلفة اللهجات في سورية وجزيرة العرب ومصر والجزائر وغيرها ، ولم يكن هذا الاختلاف في غير الأشكال ، فترى المراكشي يفهم بسهولة لهجة المصريين أو لهجة سكان جزيرة العرب مثلًا ، مع أن سكان القرى الشمالية الفرنسية لا يفهمون كلمةً من لهجات سكان القرى الجنوبية في فرنسة « (1) .
هذا بالإضافة إلى أن اللغة العربية فيها من العجائب ما لا يُنكره إلا جاحد أو متحيِّز للغته ، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر ظاهرة الترادف التي فاقت فيه العربية سائر اللغات بكثرة الألفاظ للمسمَّى الواحد ، يقول السيوطي (ت 911 هـ) : » وإن أردتَ أن سائر اللغات تبيِّن إبانة اللغة العربية فهذا غلط ؛ لأنا لو احتجنا إلى أن نعبِّر عن السيف وأوصافه باللغة الفارسية لما أمكننا ذلك إلا باسم واحد ، ونحن نذكر للسيف بالعربية صفات كثيرة ، وكذلك الأسد ، والفرس ، وغيرهما من الأشياء المسمَّيات بالأسماء المترادفة . فأين هذا من ذلك ؟ وأين لسائر اللغات من السَّعة ما للغة العرب ؟ هذا ما لا خفاء به على ذي نُهية « (2) .

لقد كانت العربية في العصور الوسطى "اللغة الحية" لِما كانت تتمتع به من سعة انتشارها وسهولة تقبُّلها ـ مثلما هو حال الإنجليزية اليوم ـ على الرغم من الفرق الكبير بين العربية والإنجليزية ، فكانت بحقٍ لغة مميَّزة تهافتَ عليها المتعلِّمون من غير العرب يكتشفون سرَّها وسحرها ، فشرعوا يتعلمونها كي يفهموا علوم العرب في تلك الفترة ؛ قال البيروني (ت 440 هـ) : » إلى لسان العرب نُقِلت العلوم إلى أقطار العالم ، فازدانت وحلت إلى الأفئدة ، وسرت محاسن اللغة منها إلى الشرايين والأوردة .. والهجوُ بالعربية أحبُّ إليَّ من المدح بالفارسية ، ويعرف مصداق قولي من تأمَّل كتاب علمٍ قد نُقِل إلى الفارسية ، فسيرى أنه قد ذهب رونقه ، وكسُف بالُه ، واسودَّ وجهُهُ وزال الانتفاع به « (3) .
إذن ؛ كانت العربية هي لغة العلم حينما كان العرب المسلمون يُقدِّرونها ويُجهِدون أنفسهم في سبيل رُقيِّها ، فاعترف لهم بذلك القاصي والداني ، فلا مناص أن نجد من الأجانب مَن ينقلون إليها علوم مَنْ سبقوهم كونها لغة حيَّة ؛ فالعربية الفصيحة » استطاعت أن تكون لغة العلم خلال قرون عدة ، وقد كتب بها المختصون من عرب وغير عرب مسلمين ، ولقد وجد غير العرب ومن غير المسلمين أنها أمثل لغة للتعبير عن الفكر الفلسفي ، وأن فيها مكتبة تمدُّ الباحث المتخصِّص بطائفة من الألفاظ الاصطلاحية . ومن أجل ذلك نقل إليها التراجمة النصارى فلسفة الإغريق وعلومهم ، ذلك أنهم وجدوا أن سريانيتهم لا تؤدي هذه الأغراض الجديدة « (4) . كما أن اللغة العربية تتمتع بمطابقة حروفها صوتاً وكتابةً ، فهي كما تُنطق تُكتب ؛ عكس اللغات الأخرى ، فالنظام الحَرْفي في (الألفباء) الذي تسير عليه اللغة العربية نظام في مستوى الدقة ؛ فلقد جاءت وفقاً لأحدث الآراء في الدرس الصوتي الحديث التي تنص على أن أفضل الألفباءات وأكملها هي تلك التي تراعي ذلك المبدأ المشهور الآن : » رمز واحد للوحدة الصوتية الواحدة « (5) على عكس نظام (الألفباء) للغات الأخرى ؛ كالإنجليزية والفرنسية على سبيل المثال ؛ إذ لا بد لكل رمز صوتي من طريقيْن في الكتابة ؛ فحرف مثل (K) يُكتب مرة بـ (k) ومرة (c) وحرف (F) يُكتب مرة  (f)ومرة (ph) ومثل حروف (الخاء) التي تُكتب (kh) وحرف (الذال) التي تُكتب (th) ... إلخ .
فالعربية ـ مما لا يخفى على أحد ـ بقيت صامدة رغم العوائق ، ولم تتغير بُناها إنْ على المستوى الصوتي أو الصرفي أو التركيبي ، فهي قد » تناسلت تناسلًا طبيعياً ، واحتفظت بأصالتها ، وأصولها التركيبية والدلالية والصوتية والبنائية منذ أقدم عصورها فيما تناقلته الأجيال العربية من نصوصها الأدبية (الشعر ـ الأمثال ـ سجع الكهان ـ الخُطب) وفي الإسلام (القرآن الكريم والحديث النبوي ـ الأمثال ـ الشعر العربي ـ الخُطب ـ الرسائل الأدبية ـ التأليف ... إلخ) وفي العصر الحاضر (في الأدب بأنواعه والتأليف ... إلخ) في حين فقدت اللغات الأوربية هذه الخاصية ، فانبتَّت أصولها ، وابتعدت عن أمها ، وهذه بين أيدينا اللاتينية ، فقد أصبحت في عداد اللغات الميتة ، ولكن بناتها اللاتينيات قد شِبْنَ وكبرن ، وأصبحن لغات لها أصولها ، وقوانينها المتميزة وخصوصياتها المختلفة المتنوعة ، فليست الصلة واضحة بين الفرنسية والإسبانية ، وليست هاتان اللغتان قريبتي الشَّبه بالإيطالية .. بل إن قواعد اللاتينية الأم تختلف اختلافاً كبيراً عن قواعد اللغات المتولِّدة منها .. « (6) .
وذكر "برنارد لويس" في أكثر من مكان في مؤلفاته أن الحضارة الإسلامية لم تكن مجرّد جمعٍ آليٍّ للثقافات القديمة ؛ بل خلقٌ جديدٌ ، انبعثت فيه جميع هذه العناصر لتكوِّن حضارة جديدة . فيما يرى المستشرق الأوربي "سيديو" بأن الأوروبيين حاولوا أن يقلِّلوا من شأن العرب ، ولكن الحقيقة ناصعة ، وليس هناك من مفرٍّ إلا أن نردَّ للعرب ما يستحقون من عدل ، إن عاجلًا أو آجلًا . 
أما "دريبر" فيصرِّح : » ينبغي عليَّ أن أنعي الطريقة المُحكمَة التي تحامل بها الأوربيون لإخفاء مآثر المسلمين العلميَّة علينا . ويقيني أن هذه المآثر سوف لا تظل كثيراً بعد الآن مخفيَّة عن الأنظار . إن الجور المبنيَّ على الحقد الديني والغرور ، لا يمكن أن يستمرَّ إلى الأبد « (7) .
وعليه ؛ فألفاظ اللغة العربية انطلاقاً من هذه الصيغ توحي بأن هناك سراً عظيماً وراءها دون تحيُّز أو عاطفة ، إنها لغة مشرقة يانعة ضاربة في عمق الحياة بصورة عامة ، تتفرَّع عنها جوامع الكلِم ، وبديع الألفاظ ، وجمال الأسلوب ، وحسن التركيب ، لا يعتري أصواتها ولا حروفها ولا كلماتها ولا جُملها ما يشوب جوهرها ويُنقِص من كبريائها .
لغة تسمو بسموِّ عباراتها ، وتتعالى ببهاء عطائها ، وقوة خطاباتها ، لغة تتولد منها آلاف المعاني في غير تكلف ولا مشقة استخراج ، وتتلاحم فيها الملفوظات في غير إسراف ولا ضيق وعاء ، إنها بحق رائدة مستوعبة لمجمل المعاني ، يقف النحرير عاجزاً عن وصف حقيقتها ، ويخضع الجهبيذ لها متأملاً سطوة حروفها على نفسه ، ولا يتهيَّأ له إلا التسليم بأنها لغة القراءة والكتابة والعلم دون منازع ، حتى الذي في نفسه شيء عليها لا يسعه إلا الاعتراف ــ ولو لم يُظهر ذلك للناس ــ رغماً عنه بأنها لغة مقدَّسة ، ترعاها يد عُليا تعالت فوق أيادي البشر ، وهي باقية بقاء القرآن العظيم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ حضارة العرب ، غوستاف لوبون ، ترجمة : عادل زعيتر ، مؤسسة هنداوي ، القاهرة (مصر) ، 2013 ، ص 455 .   
(2) ـ المزهر في علوم اللغة وأنواعها ، جلال الدين السيوطي ، تحقيق : محمد جاد المولى وآخرون ، المكتبة العصرية ، بيروت (لبنان) ، ج1 ، (د ط) ، (د ت) ، ص 322 .
(3) ـ العربية تطور وتاريخ ، كريم زكي حسام الدين ، منشورات كتب عربية ، ص 280 .
(4) ـ مقدمة في تاريخ العربية ، إبراهيم السامرائي ، منشورات وزارة الثقافة والإعلام ، العراق ، 1979 ، ص 64 .
(5) ـ التفكير اللغوي بين القديم والجديد ، كمال بشر ، دار غريب ، القاهرة (مصر) ، (د ط) ، 2005 ، ص 384 . 
(6) ـ البحث اللغوي وصلته بالبنيوية في اللسانيات ، رشيد عبد الرحمن العبيدي ، ص 56 ـ 57 .
(7) ـ الاستشراق والتاريخ الإسلامي ، فاروق عمر فوزي ، الأهلية للنشر والتوزيع ، عمان (الأردن) ، ط1 ، 1998 ، ص 186 .