ماذا حدث للغة العربية؟

د. جلال أمين

 

فاجأتنى صديقة عزيزة بمكالمة تليفونية فى الصباح الباكر، لا للسؤال عن صحتى أو عن أخبار أسرتي، بل بالسؤال الآتي: «من المسئول عن تخريب اللغة العربية؟»، كانت قد شاهدت لتوها برنامجا تليفزيونيا نطق فيه المذيع ببضع عبارات ركيكة، ومخالفة لقواعد اللغة، بل ومخالفة حتى للذوق السليم، إذ وردت على لسانه كلمة «إيفينتات»، وهى مزيج غريب من الانجليزية والعربية للتعبير عن الأحداث، وكلمة «الوانات»، إذ لم يكتف قائلها بجمع «لون» مرة واحدة فجمعها أكثر من مرة، وكلمة «الخبيري»، إذ لم يجد فى كلمة »الخبير« ما يكفى للدلالة على المعني.

قالت «إنى أعرف أنك لا تشاهد التليفزيون إلا نادرا، ولكنى مضطرة لذلك بسبب عجزى عن القراءة ليلا»، وعلى أى حال فأيا كان مصدر الخبر فإن الواقعة قد وقعت بلا شك، وحدث تخريب مؤكد للغة العربية.

شعرت بالأسف كما شعرت هي، وضاعف من أسفى أنى كنت أقرأ فى اليوم نفسه فى كتاب من تراثنا القديم، يعود إلى القرن الرابع الهجري، وهو كتاب «الامتاع والمؤانسة» لأبى حيان التوحيدي، وراعنى جمال لغته، بل حتى ما فيه من سجع تذوقته وطربت له، رغم أننا تعودنا منذ صبانا أن نقرأ أو نسمع انتقادا شديدا للسجع، قلت لنفسى إنه لا يعيب الكلام المقروء أو المسموع أن تكون له موسيقي، وأن السجع لا يكون بالضرورة على حساب عمق المعنى ولا يخل بالضرورة بجدية الموضوع أو خطورته.

قلت لنفسى أيضا إن هذا الموقف المتعالى على تراثنا الأدبى والفكري، يرجع بلا شك إلى عقدة نقص تكونت لدينا منذ الصغر، جعلتنا نعلى من شأن كل ما يأتينا من الغرب، مهما كان تافها، ونقلل من شأن تراثنا مهما كانت مزاياه، ونحن للأسف قد دأبنا منذ ما يقرب من قرن كامل، على النظر بريبة وقلة ثقة إلى ما يصدر عن مؤلفينا وكتابنا، ما لم يكن ترديدا واضحا لشيء قاله الغربيون ودعوا إليه. وقد امتد أثر هذه النظرة إلى اللغة العربية نفسها، رغم ما فى هذه اللغة من أوجه الجمال والقوة، والقدرة على التعبير عن أدق الظواهر النفسية والطبيعية، فعاملناها كما نعامل انتاجنا الفكرى والأدبي، ولو كان هذا الانتاج يعود إلى عصر كنا فيه أعلى الأمم شأنا وأكثرها تقدما.

ولكن هناك سببا آخر لما حدث لنظرتنا إلى اللغة العربية، والتدهور فى درجة احترامنا لها، غير عقدة النقص، وهو ما حدث فى العالم كله من زيادة تقدير الاعتبارات الاقتصادية على غيرها، وما اقترن بهذا من استهانة بأمور ضعيفة الصلة بالاقتصاد.

يبدو لى أن هذا التحول نحو إعلاء شأن الاعتبارات الاقتصادية قد بدأ أو نما بسرعة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ودخولنا ما يمكن تسميته «بالعصر الأمريكي». لقد شهدت أوروبا فى ربع القرن التالى لانتهاء تلك الحرب معدلات للنمو الاقتصادى لم تعرف مثلها قط فى تاريخها الطويل. وما أن حلت السنوات الأخيرة من الستينيات حتى شهد العالم الغربى ما عرف «بالمجتمع الاستهلاكي»، الذى يرفع من شأن النجاح فى رفع مستويات الاستهلاك، سواء للفرد أو للأمة ككل، ويعليه فوق غيره من أنواع النجاح. أصبحت السياسات الاقتصادية هى أهم معيار يستخدم فى تقييم تقدم الأمة أو تأخرها، وفى المقارنة بين الأحزاب المتنافسة، على حساب الأمور الأخرى السياسية أو الثقافية.

ما الذى جعل الاقتصاد يتقدم على غيره من الاعتبارات منذ منتصف القرن الماضي؟ هل هو ما نشأ من حرب باردة بين المعسكرين الرأسمالى والاشتراكي، استخدم فيها الأداء الاقتصادى كمعيار أساسى للمفاضلة بينهما؟ هل هو بروز هدف «التنمية الاقتصادية» فيما سمى وقتها بالعالم الثالث، مما جعل نجاح أو فشل الدولة فى رفع معدل النمو الاقتصادى هو الأساس فى الحكم على نجاحها أو فشلها بوجه عام؟

أيا كان السبب، فقد اقترن إعلاء شأن الاعتبارات الاقتصادية بالاستهانة (نسبيا أو بشكل مطلق) باعتبارات أخرى ثقافية أو نفسية أو روحية، بما فى ذلك صيانة اللغة القومية.

إنى أتأمل الاعلانات المنتشرة فى كل مكان، وفى سائر وسائل الاعلام، وألاحظ ـ بأسف شديد ـ ما تدل عليه من لا مبالاة بقواعد اللغة. وكأن كسب بعض المستهلكين الجدد يبرر تعريض اللغة القومية لهذه الدرجة من المهانة، هذه اللامبالاة تلاحظ ليس فقط فى الاعلانات المستخدمة لترويج السلع، ولكن أيضا فى خطب السياسيين والزعماء لترويج سياساتهم، التى تدور هى أيضا حول انتاج واستهلاك المزيد من السلع.

هكذا اقترنت «عقدة النقص» إزاء كل ما يفعله الغرب، بالميل إلى إعلاء شأن الاعتبارات الاقتصادية على غيرها، فانتهى الأمر بالضرورة إلى ما نراه من تهاون فى التعامل مع لغتنا القومية.
 

الأهرام