لنعتز بلغتنا.. ونعلّمها الآخرين

أ. محمد المزيني

 

الباكستاني الذي قضى نحو 30 سنة عاملاً في مدينة الرياض حتى اليوم، يجد صعوبة قصوى في فهم اللغة العربية المنطوقة بلهجاتها المختلفة، ناهيك عن فهمها واستخدامها واسطة يتواصل بها مع الآخرين. الموظف الآخر العامل في إحدى وكالات السفر والسياحة منذ أكثر من 20 سنة، يتجاذب الحديث يومياً مع كثير من العرب، يجد صعوبة كبيرة في الفهم والإفهام باللغة العربية، ليبدو الكلام بينهما خليطاً من العربية المكسرة وكلمات متكلفة ومتعسفة من اللغة الإنكليزية. أما الفيليبيني العامل في إحدى محطات الوقود الذي لم يكمل عامه السادس في السعودية بات أعجوبة أقرب ما تكون للطرافة أو الغرابة وهو يستقبل زبائنه باللهجة البدوية الصرفة مع بعض عبارات الضيافة، بحميميتها ودفئها، للوهلة الأولى وقبل أن تراه تتخيل أنك بين يدي شاب سعودي اضطرته ظروف الحياة للعمل في محطة «غيار الزيوت»، وتستبشر خيراً بأن شبابنا بدأوا يتناغمون مع إيقاع الحياة الحقيقي، ويقبلون العمل في مثل هذه المهن التي لا نزال نراها صعبة وقاسية، ثم تفاجأ بأنك أمام شاب فيليبيني بكل تقاسيمه عدا لسانه الذي استنبت فيه بلاغة اللهجة البدوية الصرفة وملاحتها، ثم تسأل عن السر، ولا بد أن يدفعك فضولك لأن تواصل دهشتك بحفنة من الأسئلة التي تعود عليها الشاب الفيليبيني، وإجابته قد حفظها عن ظهر قلب ليقول لك إنه عمل مع بدوي في الصحراء يرعى معه الإبل ويقوم ببعض شؤونه الأخرى التي تتطلب مهارة خاصة، كإصلاح السيارات المتعطلة، كميكانيكي وهي المهنة التي جاء من أجل العمل بها، إلا أن العم البدوي بفراسته اكتشف قدرة عامله على أداء أي مهارة تتطلب مواصفات خاصة أولها القبول بطواعية والتحمل. لذلك، أوكل إليه كثيراً من أعماله، وظل يشاركه الحياة العامة بكل تفاصيلها حتى أنه تشرب اللغة بلهجتها البدوية الصرفة وأصبح يخاطب الناس بها كواحد منهم.

سنتان فقط كانت كافية لتشرّب اللغة، مع العلم أنه لم يتعامل في حياته التي قضاها خلال الخمس سنوات في السعودية مع جموع غفيرة ترد عليه يومياً كما أتيح للآخرين، أقصد العامل الباكستاني والآخر موظف الحجز في وكالة السفر والسياحة اللذين قضيا زمناً طويلاً بين ظهراني السعوديين والعرب، ولم يوفقا في التقاط اللغة جيداً، لن نعول كثيراً في هذا الأمر على ذكاء الفيليبيني ومهاراته الخاصة، لأن آلافاً من الجنسيات غير العربية ممن عاشوا طويلاً بيننا لا يزالون يواجهون مشكلة كبيرة في تعلم العربية واستخدامها، على رغم أن أكثرية الناس لا يجيدون اللغة الإنكليزية فيضطرون إلى مجاراتهم باستخدام لغة هجينة مكسرة لا تنتمي إلى أي لغة أو لهجة معينة.
وهنا ينبعث السؤال الأهم: ما هو السبب في عجز المقيم الأجنبي عن التقاط اللغة العربية بشكل صحيح خلال سنوات طويلة يقضيها داخل البلد، بينما يستطيع الفيليبيني البدوي إجادة اللهجة البدوية بفصاحتها وحكمها وأمثالها إجادة تامة؟
هنا نعود إلى ما كان يفعله العرب مع أبنائهم حينما يرسلونهم إلى البادية كي تستقيم ألسنتهم بفصاحة اللغة وقوتها، وتصبح معينة لهم على استلهام الشعر وإدراك مرامي الكلام ومغازي القول، وليس هذا الأمر وحده ما حصل للعامل الفيليبيني، بل هناك ما هو أبعد يتمثل في عجزنا عن تمثيل لغتنا بكل ما تحتويه من قيم وآداب وأخلاق وسلوك. لذلك، حينما نستخدمها بلهجاتها نحاول جاهدين انتزاعها من ألسنتنا، وكأننا نواري سوأة ستفضحنا.
لم نعِ جيداً أن اللغة هي مستودع ثقافتنا وعاداتنا وأخلاقنا، بها نستطيع كسب الآخرين ودمجهم في مجتمعنا بشكل طبيعي، وهذا لن يتأتى ما لم نتخلَ عن فوقيتنا والنظر إليهم بعين الاستصغار وأحياناً الاحتقار، ولو كنا نستشعر قيمة اللغة وفحواها الحقيقيتين، كمعبر حقيقي عن حضارتنا التي استوعبت معنى الأمة المؤثرة من خلال لغة القرآن وآدابه وأخلاقه، لاستطعنا بجدارة غرس اللغة في أدمغة الناس وألسنتهم، حتى لو كانت بلهجات متعددة، تختلف في مخارجها وتشكيلها، ولنسأل أنفسنا كيف يستطيع شبابنا المبتعثون إلى الشرق والغرب إجادة اللغات الأخرى في بضع سنين. في بريطانيا تكاد تكون اللغة من أهم ما يشغل الإنسان هناك، يلحظ بدقة اختلافات استخداماتها، ويستطيع أن يميز الآخرين بها ويدرك أيضاً لهجاتها، فترى أهل الشمال يختلفون عن أهل الجنوب، ومع ذلك لا يجدون أدنى غضاضة في استخدامها والتباهي بها أينما رحلوا وحلوا، ولن يتنازلون عنها بتاتاً، فهي تكاد تكون الهوية الثانية بعد الهوية الوطنية. لذلك، لن يجد الغرباء بُداً ولا مناصاً من تعلمها وإجادتها كي يستطيعوا الاندماج بأهلها، وهذا ما يجب علينا أن نفعله مع كل القادمين من ذوي اللغات المختلفة بما فيهم الإنكليز، أن نقدم اللغة العربية على لغاتهم، كما يفعل الفرنسيون والألمان مع كل الغرباء، لا يتنازلون عن لغتهم مهما كان السبب، وعليك إيجاد طريقة لفهمهم ولو بالإشارة.
اتركوا عاملات المنازل للأمهات الكبيرات، فهن أعظم مدرسة لتعليمهن اللغة، صدقوني لن تنقضي سنة إلا وهن يتحدثن اللهجة نفسها، ويمارسن العادات والتقاليد ذاتها، ولتكن حياتنا مشمولة بالاهتمام الأكبر بلغتنا، فلا ندع الآخرين يرحلون إلا وقد أجادوها قراءة وكتابة، ومعها حزمة من الأخلاق والعادات والتقاليد الرفيعة التي سيذكرونها ويحمدوننا عليها.

الحياة