اللغة العربية والعلم الحديث

د. محمد سعيد حسب النبي

 

تجتاز اللغة العربية في عصرنا الحالي مرحلة من مراحل تطورها سيكون له أثر واضح في مستقبلها. والتطور العلمي والمعرفي والتكنولوجي من التحديات المهمة التي تواجهها اللغة العربية. ومن المقالات المهمة في هذا السياق ما كتبه الدكتور "علي مشرفة" في كتابه مطالعات علمية، حيث عرض لعدد من القضايا المهمة في هذا السياق؛ فقد أشار إلى اللغة التي كان عرب البادية يتكلمونها بسليقتهم فيصفون بها حياتهم ويعبرون بها عن مشاعرهم في صحرائهم وبين إبلهم وآرامهم والتي صارت بعد ذلك لغة الكُّتاب والفلاسفة في عصور المدنية الإسلامية؛ يتناولون بها سائر المعاني الأدبية والفلسفية. تلك اللغة قد كُتب عليها أن يصيبها الخمول فتبقى مئات السنين بعيدة عن مجهودات البشر الأدبية والفلسفية والعلمية –على حد قول علي مشرفة- ثم ها نحن نراها اليوم وقد بُعثت من مرقدها في ثوب جديد فصارت لغة الكتابة والتأليف؛ لغة الخطابة والتعليم في عصر انتشرت فيه مدنية جديدة وعمته حضارة مستحدثة؛ تختلف في مظهرها الخارجي وفي المحمل العقلي المرتبط بها اختلافاً بيناً عن حضارات القرون الوسطى. فاللغة العربية تبعث اليوم كما بعث الفتية بعد أن ضُرب على آذانهم في الكهف سنين عدداً فتجد نفسها في عالم جديد موحش لا تأنس إليه ولا يأنس إليها، وهو موقف نادر تقفه لغتنا.. فريد في بابه. لذلك كان لزاماً على الأدباء والمفكرين من أهل اللغة العربية في عصرنا الحالي أن يحوطوها بعنايتهم وأن يهيئوا لها أسباب الحياة الطيبة في بيئتها الجديدة حتى تتكيف بالبيئة وتجنح إليها كما تتوثر لها البيئة وتحتويها؛ فاللغة كائن حي في تفاعل مستمر مع البيئة التي تحيط بها، فإما تلاءما فاشتد الكائن وتكاثر ونما، وإما تنافرا فاضمحل وتضاءل وهلك.

ويشير علي مشرفة في كتابه أننا إذا قارنا البيئة الفكرية الحديثة بما كانت عليه في أيام ازدهار الحضارة العربية، فإن أول ما يسترعي نظرنا من الفوارق تغلّب الروح العلمية في تفكيرنا الحديث. فالمدنية الحالية كما يدل تاريخياً مدنية علمية، مدنية كشف واختراع، مدنية استنباط وتحليل، ولذا كان مظهرها الخارجي غاصاً بالآلات، تكتنف الناظر إليها عن اليمين وعن الشمال. ومما لا شك فيه أن التقدم الذي حدث في مصر وفي سائر البلاد العربية في العصر الحالي قد كان من شأنه العمل على المقاربة بين اللغة العربية الحديثة وبين بيئتها. فمن ناحية قد تطورت اللغة بأن دخلت عليها كلمات وعبارات مستحدثة نشأت الحاجة إليها، كما تغيرت معاني الألفاظ ومدلولات التراكيب بما يتفق والتفكير الحديث، وهجرت الألفاظ الغريبة علينا أو التي لا لزوم لها، فنشأ عن ذلك تهذيب في اللغة قرّبها إلى عقولنا وساعد على حسن استخدامها ومن ناحية أخرى بانتشار التعليم بين طبقات الأمة، وبزيادة تبحر متعلميها في مختلف العلوم والفنون قد انتشرت الألفاظ والتراكيب العربية وشاع استعمالها في طول البلاد وعرضها، كما تكونت طوائف من العلماء والمفكرين بيننا يكتبون ويخطبون ويؤلفون في سائر العلوم والفنون فنشأت ثروة من الأدب العلمي والأدب الفني الحديثين، يصح أن تتخذ مرجعاً لعلماء اللغة في دراستهم للغة العربية الحديثة. إلا أننا مع ذلك لا نستطيع أن نزعم أن الشُّقة بين اللغة وبيئتها قد تلاشت تماماً. فلا تزال هناك مدلولات عديدة لم تتسع اللغة للتعبير عنها بحيث يشعر المتعلم منا بنقص في لغته عندما يحاول الكلام في كثير من المواضيع العلمية والفنية. كما أنه من ناحية أخرى يوجد نقص كبير في عدد المتعلمين الذين يحسنون الكتابة أو الخطابة بلغة متفق على صحتها. 
ثم يشير علي مشرفة إلى أنه لو أتيح لنا النظر إلى مستقبل اللغة العربية فلن نجد لغة واحدة يكتبها ويتكلمها المتعلمون من أهل مصر والعراق والشام وغيرهم من الأمم العربية بفروق ضئيلة؛ لا تزيد عن الفروق بين لغة أهل استراليا ولغة أهل انجلترا. وهل تكون هذه اللغة قريبة من اللغة العربية التي يكتبها الآن المؤلف قُرب لغة الإنجليزي المتعلم الآن من لغة شكسبير؟ أم هل نجد لغات مختلفة؛ لغة في مصر، وأخرى في العراق، وأخرى في لبنان، مثلها كمثل اللغة الألمانية واللغة السويدية واللغة الهولندية في تقاربها وتباعدها، كل لغة متأقلمة بلهجة أهلها ولا صلة بين أيها وبين لغة هذا المقال إلا كالصلة بين الألمانية واللغة اللاتينية. وبعبارة أخرى هل ستحيا اللغة العربية وتنتشر أو ستموت وتندثر وتحل محلها لغات أخرى! إن مآل اللغة العربية في مستقبلها متوقف علينا نحن اليوم. فمستقبلها في يدنا.. فإما أن نحييها أو نميتها. وموتها مرتهن بجمودها عن تطورها الطبيعي كما يكون بعدم التعاون بين الأمم المختلفة من أهلها على توحيدها والمحافظة على وحدتها. وإحياؤها يكون بالتبصر والحكمة وحسن الرعاية والتمشي بها في السبيل الطبيعي لرقيها كلغة حية واحدة، ومن حسن الحظ أن لدينا اليوم من الوسائل ما نستطيع به المحافظة على لغتنا في مصر وفي سائر البلاد العربية، من انتشار المطبوعات وسهولة الانتقال من بلد لآخر. وفي عصرنا الحالي يمكن للتكنولوجيا أن يكون لها إسهام واضح في نشر اللغة العربية وتعزيز وجودها.
ثم يؤكد علي مشرفة على أنه يستهدف الصعوبات التي تصادف اللغة العربية في التعبير العلمي؛ فمن جهة لا تزال كمية التأليف العلمي في مصر وفي الأقطار العربية ضئيلة –وهذه الظاهرة موجودة إلى الآن- بحيث لا يمكن بحال ما أن تعتبر مماثلة لحالة العلم في العالم اليوم، ومن ناحية أخرى يعوز المؤلفات العلمية الموجودة التهذيب كما يعوزها التجانس في المصطلحات، فكثير من المدلولات العلمية لا توجد الصيغ اللفظية لها، وبعض المدلولات توجد لها صيغ إما ضعيفة أو غير صالحة، كما أنه توجد في بعض الأحايين صيغ متعددة للمدلول الواحد مما يؤدي إلى نوع من الفوضى في أدبنا العلمي يجب علينا تلافيها. والطريقة المثلى للتقدم كما يرى علي مشرفة تكون بتأليف لجان من الإخصائيين لمراجعة المؤلفات الموجودة وتهذيبها والعمل على تجانسها كما تكون بتكليف القادرين من الباحثين وتشجيعهم فرادى ومجتمعين على وضع المؤلفات في مختلف الفروع العلمية حتى تتألف لنا ثروة من الأدب العلمي يصح أن يعتمد عليها علماء اللغة في استخلاص المصطلحات والعبارات العلمية في لغتنا الحديثة وتحديد معانيها ومدلولاتها بمعاونة العلماء الإخصائيين في ذلك. ويحذر علي مشرفة من العبث الذي يحاوله علماء اللغة في وضع المصطلحات العلمية وضعاً قبل ورودها في المؤلفات العلمية وشيوع استعمالها؛ فإن ذلك يكون من باب التسرع وقلب النظام الطبيعي لتطور اللغة وهو في الغالب مجهود أكثره ضائع إذ لا يمكن التنبؤ بما إذا كان مصطلح من المصطلحات سيبقى ويدخل في صلب اللغة أو سيموت ويحل غيره محله.
ثم يختم علي مشرفة مقاله بنقطة مهمة وهي العلاقة بين المصطلحات العربية ومصطلحات اللغات الحية الأخرى. ففي رأيه أنه من الجائز استعمال مصطلح أجنبي في اللغة العربية، بعد تحويره ليتفق مع ذوق اللغة وأوزانها، بشرط أن يكون هذا اللفظ مستعملاً في جميع اللغات العلمية الأخرى أو في معظمها، ومثل هذه الألفاظ تكون في الغالب مشتقة من أصل إغريقي أو لاتيني، ولا جناح علينا نحن إذا اشتققنا منه كما اشتق غيرنا. أما الألفاظ الأجنبية المقصورة على لغة واحدة أو لغتين فرأيه أن يكون لها عندنا لفظ عربي مرتبط بأدبنا وتفكيرنا.