الاجتهاد في اللغة - 1

د. محمد سعيد حسب النبي

 

لاشك أن عوامل بقاء اللغة يستلزم نموها وفقاً لمتطلبات كل عصر وزمن، حتى تواكب تقدم المجتمع وتساير تطوره وارتقائه، وإن التقصير في تطوير اللغة يقود إلى رجعية وانحسار ، بل وموت في أحيان كثيرة. ومن المعلوم بالضرورة أن لغة كل أمة عنصر من عناصر تكوينها، ورقيها وضعفها، وسجل محافلها، وطابعها الذي يطبعها على السمو والعزة أو الضعة والمذلة. 

وإن المتأمل في تاريخ اللغة العربية وما آلت إليه سيلحظ أن خطراً عظيماً يحدق بها، ولاسيما بعد ما حدث مع اللغة العربية في صدر الدولة العباسية كما ذكر أحمد أمين في كتابه فيض الخاطر؛ فقد أشار إلى أن جماعة من العلماء في هذه الفترة ساحوا بين قبائل العرب يجمعون مفردات اللغة، وكان ديدنهم ألا يأخذوا عن حضري قط، ولا عمن خالط الحضر من أهل التخوم، وكلما أمعنت القبيلة في البداوة كانت أولى بالنقل عنها، كقيس وتميم وأسد وهذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين، وأودعوا كل ذلك كتبهم التي صارت نواة لمعاجم اللغة، وهو جهد مشكور، ولكن موضع الملاحظة فيه أنهم ومشايعيهم رأوا أن اللغة العربية ليست إلا هذا الذي جمعوه، ولا يصح أن تزيد ولا تنقص، وكانت النتيجة الطبيعية لهذه النظرة أنهم يريدون ألا يستعمل الناس أيام الدولة العباسية البالغة مبلغاً عظيماً من الحضارة إلا ما كان يستعمله هؤلاء البدو في معيشتهم البدوية، ولهذا صار الغنى في اللغة العربية مفرطاً في أدوات البدو ووسائل معيشتهم، فقيرة جداً في حاجات المدنية ووسائلها، ولهذا اضطر غيرهم من الذين يعيشون حياة المدنية إلى التعريب بعد أن أعرضوا عنه، نزولاً على حكم الطبيعة وتطور العمران، وخلطوا ما أخذوا عن القبائل بما عربوه من الأمم الممدنة، فأضاعوا بذلك القاعدة الأولى التي رسموها لأنفسهم، وهي الأخذ عن العرب الخلّص فقط، ولو كانوا أدركوا هذه النتيجة لسمحوا لأنفسهم من أول الأمر بالأخذ عن القبائل التي اختلطت بالعجم أيضاً، فهم على الأقل أولى من العجم الصرّف الذين عربوا عنهم. 
وليس من شك أن مفردات البدوي لا تكفي للحياة الحضرية إذ ذاك، فأكملوها بالتعريب وبتوسيع الاشتقاق وبالقياس، وسايرت حركة الاجتهاد في اللغة حركة الاجتهاد في التشريع، ثم أصيب العرب –كما يرى أحمد أمين- بضربة في الأمرين معاً، وهو إقفال باب الاجتهاد في التشريع وباب الاجتهاد في اللغة، وهو حكم قاس لا يمكن تنفيذه فيهما إلا إذا ماتت الأمة، وماتت اللغة العربية، فلما لم تمت الأمة تحايل بعض العلماء على فتح باب الاجتهاد في التشريع بوسائل ضعيفة وحيل فقيرة، ولما لم تنجح هذه الحيل كانت الضربة المخجلة –كما يرى أحمد أمين- هي عدم الاهتمام الواجب بالتشريع الإسلامي. وفي اللغة نمت العامية على حساب اللغة العربية، واستعمل الناس في حرفهم وصناعتهم وحياتهم اليومية الكلمات التي يرون أنفسهم في حاجة إليها، ومنها مفردات مأخوذة من اللغات الأجنبية، ولم تبق اللغة العربية الفصيحة إلا في تعليم الطلاب ريثما يؤدون الامتحان، أو على أقلام الخاصة الذين يشعرون بضيقها وكثيراً ما يفرون منها عند كتابتهم لما يصف الحياة الواقعية بمفرداتها، لعدم وفاء اللغة العربية بهذه المفردات.
وقد أورد أحمد أمين بعض المقترحات التي تصلح في سياق إصلاح اللغة والاجتهاد فيها، نورد بعضها على النحو الآتي:
عند النظر للغة العربية سنلحظ أنها واسعة سعة عظيمة أكثر مما يلزم في بعض المواضع، ضيقة ضيقاً شديداً أكثر مما يلزم في مواضع أخرى، والسبب في ذلك هو ما سبقت الإشارة إليه أن اللغة العربية كانت لغة قبائل مختلفة بدوية، فما كان منها يتصل بحياة البدو من الإبل وحياتها وصفاتها، والأرض وأنواعها، والخيام وما إليها، فغني غنى مفرطاً يدل على ذكاء العرب ومقدرتهم ودقة ملاحظاتهم، حتى لم يتركوا شيئاً من ملابسات حياتهم إلا لحظوه ووضعوا له اسماً، وكانت كل قبيلة تفعل ذلك، فلما جمع العلماء اللغة من قبائل مختلفة تنوعت الأسماء المتعددة للشيء الواحد، وهذا ما اصطلح على تسميته بالمترادفات، وأما ما كان منها يتصل بحياة الحضر فقليل وأكثره جاء من التعريب في العصر العباسي كما يرى أحمد أمين في ذلك.
وأما ما يتصل بالحياة المعاصرة وما تولد عن الحضارة الغربية ومنتجاتها سنلحظ قصوراً واضحاً؛ يتبين ذلك في مقارنة بسيطة بين النوق وأنواعها وأجزائها بالطائرات وأنواعها وأجزائها، والعقاقير البدوية والعقاقير الحضرية، والصناعة البدائية والصناعة الحضرية.. وغيرها. سنلحظ الغنى المفرط في الأولى والفقر المدقع في الثانية، وعلاج ذلك في رأي أحمد أمين في الآتي:
أ-التخفف من كثير من مفردات اللغة التي في المعاجم، فلابد من طرح بعض الألفاظ والاستغناء عنها إلا أن تودع في كتب مؤرخة للغة، وهذا عمل ضروري لنفسح مجالاً للكلمات الجديدة في المسميات التي نحن في حاجة إليها؛ وإلا فإذا أبقينا القديم كما هو وأضفنا إليه الجديد لتضخم متن اللغة تضخماً يعجز عنه الدارس، ومنها الكلمات الحوشية التي يمجها الذوق ويكرهها السامع، 
ب- استبعاد كثير من المترادفات التي لا حاجة إليها؛ فما الحاجة إلى أن يكون للعسل ثمانون اسماً، وللسيف نيف وخمسون، وللحية نحو مائتين، والمصيبة نحو أربعمائة، في حين أن أهم من ذلك كله ليس له اسم واحد. ويرى أحمد أمين أن زمن الفخر بكثرة المفردات لم يعد موائماً الآن، حيث تجدلمفردات الحياة العصرية اسماً واحداً يصطلح الناس عليه، ويتفاهمون به. وقد تكون كثرة المترادفات لازمة للشعر العربي الذي تلتزم فيه القصيدة وحدة القافية والروي، ولكن هذا قد جعل بعض الشعراء ولاسيما الضعفاء منهم يشدّون المعاني شداً ليعثروا على القافية لا أن يأتوا بالقافية التي تلائم المعنى.
ج- حذف كلمات الأضداد التي تفسد القصد؛ فاللغة موضوعة للإبانة عن المعاني، ولو جاز وضع لفظ واحد للدلالة على الشيء وضده لضاعت قيمة اللغة، وضرب أحمد أمين مثلاً على ذلك في قولهم: الغريم وهو المطالِب، والغريم المطالَب، وأفدتُ المال إذا أعطيته غيري، وأفدته استفدته، وولى إذا أقبل وولى إذا أدبر..وغيرها من الأضداد التي تسبب التعمية لا الإبانة، والتغطية لا الكشف، وعلة وجود الأضداد في اللغة العربية أن العلماء جمعوا الكلمات من القبائل المختلفة، فقد تكون الكلمة دالة على معنى في لغة، وضده في لغة أخرى، فكانت كل قبيلة حكيمة على نفسها؛ فلماذا يراد أن نجمع المتناقضات؟ وكما ولّد اختلاف القبائل هذا التضاد، ولد أيضاً كثرة المشترك في اللغة، فكم معنى "للعين" و"الخال" وغيرهما مما يجعل الذي يريد أن يفهم نصاً من النصوص حائراً بين جملة معان كلها صالح، ولكن لا يستطيع الجزم بأحدها. ولا يراد هنا فهم أننا نريد حذف المشترك أو المتضاد؛ فالحاجة إليهما شديدة، وإنما يراد التخفف منهما قدر الإمكان.