في الترافع عن الأمازيغية باللغة العربية

أ. محمد مغوتي

 

كتب الأستاذ بنسالم حميش مقالا وفيا لمواقفه المعروفة بعدائها الشديد للأمازيغية، وعزف مرة أخرى على أوتار الصهيونية والعنصرية والعداء للعروبة والولاء للاستعمار، وغيرها من الاتهامات الجاهزة التي تستهدف النيل من الأمازيغ والأمازيغية...وكان بالإمكان أن تمر كلماته مرور الكرام لولا أنه اختار أن يرفع سقف الهجوم إلى مستوى غير مقبول من شخص يفترض فيه أنه ينتمي إلى النخبة المثقفة في هذا البلد. عمد السيد حميش إلى تبخيس النضال الأمازيغي برمته، لا لشيء سوى لأن نشطاء الأمازيغية لا يكتبون بلسان أمازيغي؛ وهكذا وصف من يكتب باللغة العربية الفصحى ليدافع عن الأمازيغية بكونه يأكل الغلة ويلعن الملة.

يستكثر السيد حميش على نشطاء الحركة الأمازيغية الكتابة والحديث باللغة العربية، ويتوجه تحديدا إلى الأستاذ أحمد عصيد الذي يواجهه بتحد خاص من خلال دعوته إلى استخدام حرف تيفناغ في كتاباته بدل الحرف العربي وفق ما يقتضيه المنطق.

كلام الأستاذ حميش بهذا الصدد ينطبق عليه القول المأثور: "حق يراد به باطل"؛ ذلك أن المنطق يقتضي فعلا أن نكتب باللغة التي ندافع عنها وعن ثقافة وهوية أهلها، غير أن واقع الحال في ما يتعلق بوضعية الأمازيغية لا يمنحنا هذه الإمكانية، فنحن إزاء هوية عرفت حصارا طويلا، ولغة كانت الكتابة بها حتى وقت قريب جريمة يعاقب عليها القانون، لذلك فإن الكتابة بالعربية الفصحى من أجل الترافع عن الأمازيغية والدفاع عنها أمر طبيعي جدا؛ وذلك لسبب موضوعي يرتبط بواقع فرضته السياسات المتبعة التي تحولت بموجبها العربية إلى لغة رسمية يكتب ويقرأ بها كل المغاربة الذين ولجوا المدرسة، ومن ثم فإن العربية الفصحى تمثل سننا مشتركا للكتابة والحديث على هذا المستوى، واستخدامها في كتابة المقالات والمشاركة في الندوات والمناظرات المتعلقة بالأمازيغية لا يعد انتقاصا من النضال الأمازيغي ولا مذمة له، لأن الأمازيغية شأن مجتمعي عام وليست شأنا نخبويا خاصا، والدفاع عن قضاياها باللسان العربي يحقق التواصل المنشود، ولا يجعلها محتكرة من طرف فئة محددة تتقن القراءة والكتابة بتيفناغ...

وهكذا يبدو واضحا أن التحدي الذي يضعه الأستاذ حميش أمام النشطاء الأمازيغيين يراد منه إظهار قصور الأمازيغية وعجزها، وهذا يعني أن لسان حال صاحبنا يقول: "مادام المنافحون والمدافعون عنها أنفسهم لا يستطيعون كتابة مقالاتهم بلسانها، فلا يمكنهم أن يقنعوا المغاربة بجدوى تعلم الأمازيغية وترسيمها"؛ وهو موقف مغالطي وغير علمي، لأنه ينسى أو يتناسى بالأحرى أن اللغة الأمازيغية لم تعرف طريقها إلى المدرسة بفعل سياسات المنع والمصادرة؛ فكيف يمكن أن يطالبنا السيد حميش بالكتابة بالأمازيغية وهو يعرف جيدا أن حرف تيفناغ لم يؤهل مدرسيا حتى الآن ليكون أداة للكتابة والتواصل الفعال بين جميع المغاربة؟.

ولقد كان حريا به – وهو المثقف الذي يعتبر اللغة وعاء الهوية- أن يسائل السياسات التي أقصت الأمازيغية لغة وهوية من المدرسة المغربية، لا أن يتهكم على نشطائها لأنهم لا يتقنون رسم حروفها...لكن من المؤكد أن صاحبنا مثل غيره من الذين يعلنون العداء للأمازيغية لا يسره أن يرى المغاربة متشبثين بهويتهم رغم الإقصاء الممنهج الذي تعرضت له طويلا، وهو لا يستسيغ استخدام نشطاء الأمازيغية والمدافعين عنها لغة الضاد في كتاباتهم وحواراتهم، لأنه ينطلق من مرجعية راهنت على إماتة الأمازيغية والقضاء عليها عبر سياسة التعريب الشاملة...إلا أن هذه السياسة لم تتمكن من طمس الإرث الهوياتي للمغاربة، بل أدت على العكس من ذلك إلى تكوين أجيال جديدة من المعتزين بأمازيغيتهم والمنافحين عنها بلسان عربي فصيح، وهو ما يعني فشلا ذريعا للتعريبيين الذين اعتقدوا أن تعريب اللسان سينتج عنه تعريب للإنسان، لكن ذلك لم يتحقق واقعيا.

يقول الأستاذ حميش في المقال المذكور: "إن المسألة الأمازيغية تحتاج إلى مفكرين أكثر من حاجتها إلى نشطاء، وذلك بما يلزم من حكمة واعتدال وقدرة على إنقاذها من المتطرفين الغلاة المسيئين إليها، هؤلاء الذين ينصبون أنفسهم منافحين عن بيضتها من حيث تحولهم إلى أعداء معلنين للعرب وثقافتهم وحتى أبجديتهم وللقضية الفلسطينية، ومن حيث اتخاذهم إسرائيل محجا وقبلة".

هذا الكلام تكرار ببغائي للازمة ترددت على مسامعنا طويلا، حيث كل من يدافع عن الأمازيغية يصنف في خانة العداء للعروبة (والإسلام أيضا)؛ وهو اتهام يستدعي القضية الفلسطينية باستمرار لدغدغة العواطف وتأليب الرأي العام ضد نشطاء الحركة الأمازيغية بدعوى التطبيع مع إسرائيل. والحال أن السيد حميش يعرف أكثر من غيره أن أكثر من أضروا بفلسطين هم العرب أنفسهم. وحتى لا نحيد كثيرا عن موضوعنا يكفي أن نذكره بمهندسي ما بات يعرف في الأوساط الإعلامية بـ"صفقة القرن" حتى يتبين بوضوح من يتخذ حقا من إسرائيل محجا وقبلة. أما علاقات بعض المحسوبين على الحركة الأمازيغية بإسرائيل فهي لا تعبر عن موقف رسمي وثابت، بل هي مبادرات تخص أصحابها، وهم أحرار في مواقفهم على كل حال؛ لذلك لا يمكن أن تعد دليلا على العداء للقضية الفلسطينية، ولا يمكن أن يحمل هؤلاء وزر المآسي التي يعيشها الفلسطينيون.

في حديثه أعلاه، واضح أن الأستاذ حميش يوجه سهامه إلى الذين يسميهم "المتطرفين والغلاة"، فمن هؤلاء بالتحديد؟ أليس كل من يدافع باستماتة عن هويته الأمازيغية ويرفض أن يكون غريبا في بلده هو من الغلاة في عرف السيد حميش وأمثاله؟ ما الصفات التي يجب أن تتوفر في الأمازيغي حتى لا يصنف ضمن قائمة الغلاة والمتطرفين؟.

لنواصل قراءة ما جاء في مقال الأستاذ حميش، حيث يضيف:

"إن أولئك الغلاة تقشعر ذواتهم تقززا ونفورا كلما طالعتهم تسميات تحمل كلمة عرب أو عربي، مثل "المغرب العربي" و"اتحاد المغرب العربي" و"وكالة المغرب العربي" و"الجامعة العربية"، ويعتبرونها استفزازا لقوميتهم ومشاعرهم الأمازيغية، لا يأبهون لكون تلك التسميات إنما هي عناوين اتفاقية لا تنفي مطلقا "الأقليات"، ولا تحمل في طياتها أي نعرة عرقية أو سلالية".

مرة أخرى يصر صاحبنا على مغالطة القراء واستغبائهم، وإلا فكيف يدعي أن هذه التسميات التي تعلن "العروبة" كانتماء هي مجرد عناوين لاتفاقيات؟ هل ما يسمى اتحاد "المغرب العربي" مثلا هو حقا مجرد عنوان لا يعبر عن حقيقته ومقتضياته وأهدافه؟.. لنقرأ في هذا الصدد الفقرة التالية التي وردت في "بلاغ مراكش" الذي حرر بتاريخ 19 فبراير 1989:

"انطلاقا مما يجمع شعوبنا من وحدة الدين واللغة والتاريخ ووحدة الأماني والتطلعات والمصير، واستلهاما من أمجاد أسلافنا الذين ساهموا في إشعاع الحضارة العربية الإسلامية وإثراء نهضة ثقافية وفكرية كانت خير سند للكفاح المشترك من أجل الحرية والكرامة، وتجسيدا لإرادتنا المشتركة التي عبرنا عنها في قمة زرالدة بالجزائر، والتي شكلت انطلاقة جديدة للبحث عن أفضل السبل والوسائل المؤدية إلى بناء صرح المغرب العربي...".

هل يمكن بعد هذا أن يدعي السيد حميش أن "المغرب العربي" مجرد عنوان لاتفاقية لا تحمل في طياتها أي نعرة عرقية؟.. ألا يحق إذن للذين يسميهم (غلاة) أن يتصدوا لهذه التسمية العرقية؟.

يذكرنا الأستاذ حميش في المقال نفسه بأن التعريب "لا يعني سوى الترجمة وتكييف المصطلح اللغوي"، وهو يدرك جيدا أن عملية التعريب في المغرب اندرجت ضمن سياسة ممنهجة استهدفت طمس حقائق التاريخ والجغرافيا، وإلا كيف يفسر السيد حميش الحصار الذي طال أسماء الأعلام الأمازيغية منذ الاستقلال؟ ما رأي الأستاذ حميش في تسمية "الجزر الجعفرية" مثلا؟. أليست هذه التسمية نموذجا لتعريب سيرة التاريخ والمكان؟.

طبعا لم تطأ أقدام جعفر العربي تراب هذه الجزر يوما، ومع ذلك اختير لها اسم عربي خالص...بينما يخبرنا المؤرخون أنها تحمل اسما أمازيغيا هو "إشفارن" (جزيرة اللصوص)؛ لأن تلك المنطقة كانت في الماضي تعج بأنشطة القرصنة...لذلك عرفت بهذا الاسم، وحافظ الإسبان على التسمية نفسها: (chafarinas). ولنسأل صاحبنا الذي يبرئ التعريب: هل إطلاق اسم "ليلى" على جزيرة "ثورا" هو مجرد تكييف للمصطلح اللغوي؟.. ربما غاب عن أذهاننا أن قيس العربي المتيم بليلى قد مر من هنا واختار تخليد اسم محبوبته على صخور تلك الجزيرة الصغيرة...

إن الغلاة والمتطرفين الفعليين هم أولئك الذين أمعنوا مع سبق الإصرار والترصد في طمس الهوية الأمازيغية وتعريب اللسان والمكان، أما الذين يعتزون بهويتهم وبأمازيغيتهم وبأرضهم، ويرفضون أن يكونوا عربا بالإلحاق، فهم منسجمون مع ذواتهم وتاريخهم، ولا يهم بعد ذلك بأي لسان يترافعون ويكتبون ويناضلون.
 

هسبريس