اللغة العربية بين التشدد والتيسير... دعوة للتقارب والمصالحة

جمال الصايغ

 

يرى الباحث الدكتور ممدوح محمد خسارة، في كتابه «اللغُّة العربيّة بين التّشدُّد والتّيسير»، أن التطور الدائم ضرورة للغات الحية.. وفق قوانين وضوابط خاصة، وهذا يتحقق بتوليد كلمات جديدة أو جمع كلمات على أبنية لم تُجمع عليها من قبل.

ويوضح أن هذه الأبنية المحدثة والدلالات الجديدة لم تكن دائماً موضع قبول من جميع اللغويين والنقاد، إذ انقسموا إزاءها فريقين: الأول يستمسك بالتشدُّد والتضييق أمام كل جديد، تخوفاً من أن يُضعف ذلك حقيقة اللغة، أو يزعزع ثوابتها.

والثاني يأخذ بالتسمُّح والتيسير أمام هذا الجديد.

ويحاول الباحث من خلال الكتاب، جسر الهوة بين الفريقين في هذه المسألة وفي غيرها من مشكلات العربية المعاصرة، كالموقف من العامية والفصحى، ومن تعريب التعليم وتغريبه.

ويدعو في هذا السياق إلى «مُصالحات تندرج في إطار ما يسمى التوعية اللغوية» بين دعاة الفصحى والعاميَّة، وبين المتشدَّدين والمتساهلين من اللغويين.

عراقة

ويعتبر الباحث أن الفصحى والعامية هما مستويان للخطاب اللغوي العربي، وهما مستويان عريقان في ثقافتنا العربية ولغتنا، موضحاً أن العامية عاشت إلى جانب الفصحى منذ الجاهلية، وكان العرب يفهمون المستويين من الخطاب اللغوي.

ويزيد: وقد لا نبعد عن الصواب إذا قلنا إن كثيراً مما ورد من كلام الجاهليين خارج القياس اللغوي إنما هو مستوى عامي من الخطاب اصطلح اللغويون على تسميته «شذوذاً أو لغة رديئة أو لغة قبيلة بعينها»، لكن الملاحظ أن كثيراً مما كان يعدُّ عامياً في ذلك العصر، هو اليوم فصيح لا يستغنى عنه، مما حدا بنا إلى القول بشيء من العمومية «إن كثيراً من عامية القدماء صار في عداد فصيحة المعاصرين».

ويدعو الباحث إلى عدم التبرُّؤ من العامية، وكأن لا قرابة بينها وبين الفصيحة، داعيا إلى الإقرار بأن كلا المستويين أصيل وثابت في العربية، وهو عصيٌّ على الزوال، لا العامية استطاعت أن تزيح الفصيحة حتى في أحلك عصور الرُّكود الثقافي التي مرت بها الأمة، كما لم تستطع الفصحى في أزهى العصور الثقافية إقصاء العامية.

هدف

ويرى أن الحل هو التقارب بين مستوى العاميّ والفصيح، إذ ليس بمقدور أي من الفريقين الاستغناء بالمطلق عن أسلوب الفريق الآخر، لذا يتعين على الفريقين المصالحة على هدف لغوي أكثر مما يتخيل كل منهما، هدف وسط، يحاول فيه أنصار العامية تحسين أدائهم اللغوي بتطعيم خطابهم بما لان من الفصيحة، ويحاول أنصار الفصحى تيسير خطابهم بما صَحَّ من العاميّة.

لكنه يشدد في الوقت عينه على الخط الأحمر الذي لا يقبل بأي حال تحت أي حجة، وهو كتابة اللهجة العامية، لأن انتقال أي لهجة من المستوى الشفاهي إلى المستوى الكتابي يعني مقتلاً للغة.

لغة ثالثة

ويسمي الكاتب الهدف الوسط الذي يشير إليه «اللغة الثالثة»، أو لغة المثقفين، التي لا هي بالعامية تماماً، ولا هي بالفصحى كليَّة.

ويرى أن الطريق إلى هذه اللغة هو التعليم، مشيراً إلى أن عامية اليوم، بسبب التعليم، لا تختلف كثيراً عن فصيحة بداية عصر النهضة مطلع القرن التاسع عشر، حيث كان التعليم محدوداً، منبهاً على نقطة مهمة، هي أن الدعوة إلى تلك اللغة الوسطى في الخطاب، أو الحديث الشفاهي اليومي،لا تعني إلغاء المستوى البياني الفصيح، بل أن يبقى للبيان والأدب مستوى عالٍ ورفيع، وأن يبقى للحديث اليومي الشفاهي مستوى ينأى عن الرّكاكة.

دور

يستعرض الباحث ما قامت به مَجامع اللُّغة العربيَّة في الوطن العربي، لاسيما مَجَمَعي القاهرة ودمشق، اللذين جعلا من دراسة الألفاظ والأساليب والتراكيب المولَّدة والإفتاء فيها، من مهامهما الرئيسة، لافتاً إلى أن المجمعين كانا أقرب إلى التيسير والتسمُّح منهما إلى التشدُّد والتصعُّب، وما ذاك لرغبة في التسهيل ولموافقة الجديد الشائع، بل انطلاقاً من أصول اللُّغة العربيَّة، وتفعيلاً لخصائصها في التجديد.

اللغُّة العربيّة بين التّشدُّد والتّيسير.. إصدار الهيئة السورية للكتاب 2018
 

البيان