لغتنا العربية ومساوؤها

د. رضا العطار

 كانت ولا تزال اللغة من اعظم الميزات البشرية، لأنها جعلت التفهم والتفكير ممكنين. بل جعلت الثقافة تُختزن وتُورث من جيل الى آخر. ولكنا نجد ان اللغة كثيرا ما تحيل التفاهم الى التباس. فيسيء بعضنا الى بعض. لأنه يجهل الغاية من كلامه. وكلنا يعرف ظروفا مرت به حين كان في حوار مع الآخرين. فكان يضطر الى ان يسأل :

ماذا تقصد بهذه الكلمة ؟

وهذا السؤال يدل على ان الكلمات تلتبس, بل تلتغز معانيها بين شخص وآخر. وانها لهذا السبب لا تؤدي الغاية الاولى منها. وهي الفهم والتفاهم. واللغة الحسنة هي التي يقل فيها الألتباس او ينعدم. لان لكل كلمة معنى معينا لا يتجاوزه. ولا يتسع لهوامش. تحمل الشك او الغموض او الزيادة و النقصان، كما هي الحال في كلمات كثيرة مائعة تسيل على الجوانب ولا تثبت في نقطة بؤرية.

واللغة بما ورثت من عادات ذهنية قديمة كانت شائعة قبل الاف السنين. وقد حملت الينا من المعاني مالم نعد في حاجة اليه, بل نحن نستضر به. انظر مثلا الى السباب الديني في كلمتي كافر او نجس، فهاتان كلمتان قد ورثناهما من عصر كانت العقيدة فيه اساس السلوك. ولم يكن الناس يستوون في الحقوق, لأنهم كانوا يختلفون في العقيدة. ونحن نعيش اليوم في عصر تعم المساواة فيه بين جميع الناس, خاصة المتحضرين منهم بصرف النظر عن عقائدهم. ونحن نطالبهم بان يجعلوا المنطق مرشدا لحياتهم. لكن هاتين الكلمتين تحدثان انفعالا يسيئ الى السلوك العام في أية امّة.

ونحن حين نسمي انسانا – كافرا – نحرك عاطفة خسيسة للكراهية, كما نفعل حين نسمي السمكة – ثعبانا – نحمل الناس على كراهتها.

فهنا ضرر اللغة واضح. فأننا اذا دخلنا معملا كيميائيا وجمعنا فيه نحو عشرين شخصا من سلالات وشعوب مختلفة. وحاولنا ان نميز بتجارب علمية دقيقة بين الكافر والمؤمن. والنجس والطاهر، لما استطعنا، لأننا نجدهم في ظرف العلم الحديث سواء.

وقل في هذا في كثير من الكلمات التي تحمل شحنات عاطفية سيئة، فأنها كثيرة في كل لغة, ونحن حين نحاول التفكير بالمنطق والتعقل في اي موضوع, نجد هذه الكلمات تعترضنا وتسد علينا السبيل دون التفكير الناجح.
 
ومن اضرار اللغة العربية هذه المترادفات التي تبعثر المعاني. وتبعدنا عن الأحكام في التعبير. ولهذا السبب يجب ان يكون من قواعد التعليم للبلاغة الجديدة محاسبة التلميذ في انشائه على الكلمة الزائدة. كما نحاسبه على الخطأ الذي يقع فيه حين يرفع مفعولا او ينصب فاعلا.

ولذلك يجب ان يكون المنطق اساس البلاغة الجديدة. وان تكون مخاطبة العقل غاية المنشيء بدلا من مخاطبة العواطف. والبلاغة بفنونها المختلفة كما هي الان في لغتنا العربية تخاطب العواطف دون العقل. وهذا ضرر كبير. فأننا حين ننصح أحد الشبان بأن يسلك السلوك الحسن مع الاخرين ويتخذ اسلوبا مقبولا في الحياة, نشير عليه بأن يجعل العقل والمنطق , دون العاطفة والأنفعال. هدفه ووسيلته في كل ما يعمل. ولكن البلاغة العربية في حالتها الحاضرة هي بلاغة الأنفعال والعاطفة فقط.
 
ان اللغة الحسنة هي تلك التي تتيح لنا التفكير المنطقي كما لو كانت كلماتها ارقاما تؤدي لنا الحساب الذي لا يحمل حاصل الجمع او الطرح فيه معنى الشك. والواقع ان العلوم لا تنضج الا حين تقاس بالأرقام. وتعبر الاعداد عن حقائقها. ولا يزال كثير من علمي السيكولوجية والاجتماع بعيدا عن امكان التعبير عنه بالارقام. ولذلك تنقص قيمتهما بقدر هذا العجز عن استخدام الارقام في شرحهما وفهمهما.
 
ونحن في البلاد العربية نسيئ الى اللغة العربية والى شبابنا ايضا حين نتخذ معهم طرقا عتيقة في معالجتها، يمكن تلخيصها فيما يلي :

1 – اننا نعلمهم مبادئ البلاغة بالمجاز والاستعارة والتشبيه و..الخ كي يصلوا بها الى التعبير الفني او الرفاهية الذهنية، بدلا من مبادئ البلاغة العقلية بقواعد المنطق التي تصلهم الى دقة التعبير وتوقي الالتباس. والنتيجة من هذه البلاغة العاطفية هي الضرر . لانها تحدث لهم اتجاها نحو التزاويق والبهارج. فإذا طلب منهم التفكير عجزوا.

2 – هذه البلاغة العاطفية قد حملت المعلمين على الاكبار من شأن الأقتباس حتى اننا كثيرا ما نرى في كتب الانشاء التي يتداولها التلاميذ عناية المؤلفين بما يسمونه – الجمل المختارة – وهي عبارات تحتوي كلمات لها بريق او رنين او ضجيج، والتلميذ الذي يكلف استظهارها انما يفعل ذلك على حساب تفكيره. فكأننا نقول له : لا تنظر الى هذه الدنيا بروح الباحث المتفهم المفكر. وانما استظهر العبارات المزخرفة والكلمات المزروقة لأنها احسن ما يمكنك ان تعبر به في الانشاء. ونحن في هذا التوجيه نحمله على العناية بالقشور, بل بما هو اتفه منها وترك اللباب اي التفكير السديد.
 
ونحن في هذا كله نكاد نجحد الذهن. وعندما يشب هؤلاء الشبان يتجهون وجهة الاقتباس والتزويق دون التفكير والبحث. وهذا ما نراه شائعا في كتبنا ومجلاتنا, بل احيانا نجد العربي المتعلم الذي درس في اوربا واصطنع المنطق العلمي في تفكيره عاجزا عن التأليف في اللغة العربية. لأنه يجهل الأقتباس والتزويق، ولذلك يحجم عن التأليف.

لذا يجب معالجة هذه الاحوال في ان نجعل قواعد المنطق تقوم مقام قواعد البلاغة القديمة. أي دقة التعبير بدلا من تزويق التعبير ومخاطبة العقل بدلا من مخاطبة العواطف ومقاطعة الاقتباس في الانشاء في المدارس الابتدائية والثانوية. وجعل التفكير يقوم مقام الاقتباس. ولذا يجب ألاّ تكون هناك – جمل مختارة – تحفط على ظهر قلب بل يجب ان يعوّد الصبي او الشاب كيف يفكر ويبحث ويطلع. واذا استقرت هذه القواعد في مدارسنا، فأننا سنجد عندنا عندئذ المفكرين والمؤلفين والصحافة النيرة المرشدة, صحافة الشخصيات الكبيرة.

* مقتبس من البلاغة العصرية واللغة العربية لسلامه موسى. .
 

صوت العراق