العربية: لغة عظيمة بظهورٍ قليل

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

 

جزء من السبب في عدم احتلال اللغة العربية مكانتها اللائقة، هي أنها في الحقيقة ليست لغة واحدة على الإطلاق.

*   *   *
من بين الكثير من الأصداء التي خلفتها، كان للهجمات الإرهابية في الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 تأثيرها الجانبي اللغوي. في الفترة بين العامين 2002 و2009، حلّق عدد طلبة الجامعات الذين يتعلمون اللغة العربية في الولايات المتحدة، مرتفعاً بنسبة 231 في المائة، وعلى نحو جعل منها موضوعاً للدراسة أكثر شعبية من اللغتين اللاتينية والروسية. كان ذلك نوعاً من "لحظة سبوتنيك": تماماً مثل ما فعل القمر الاصطناعي السوفياتي الأول، هزت الهجمات في نيويورك الأميركيين ودفعتهم إلى دراسة خصومهم.
لكن الاهتمام الوطني سرعان ما خفَت. وانحدرت نسبة تعلم اللغة العربية بنسبة 10 في المائة في الفترة ما بين العامين 2009 و2016 -وهي السنوات التي واصل فيها الأميركيون القتال في العراق، ولاحقاً ضد تنظيم "داعش". والآن، تحتل العربية في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا المرتبة الثامنة فقط بين اللغات التي يقبل الناس على دراستها أكثر ما يكون، خلف اللغات الأكثر أهمية، وإنما الأكثر جنسية، كما هو حال الإيطالية (في اختبارات المستوىات الأولى في بريطانيا).
تحتل اللغة العربية المرتبة الخامسة بين أكثر اللغات استخداماً في العالم، مع أكثر من 313 مليار إنسان يتحدثون بها. وهي لغة رسمية في 25 دولة -أكثر من أي لغة أخرى باستثناء الإنجليزية والفرنسية- وواحدة من ست لغات رسمية في الأمم المتحدة. وباعتبارها حاملة واحد من الأديان العظيمة، الإسلام، يجري تعلُّمها على نطاق واسع لأسباب دينية. وإذن، لماذا تبدو العربية وكأنها تضرب بأقل من زنها في العالم العلماني؟
جزء من الإجابة هو أن "اللغة العربية"، اليوم، ليست لغة واحدة مفردة حقاً على الإطلاق. وبدلاً من ذلك، يصفها الباحثون بأنها "لغة تجميعية". وتشكل "العربية الفصحى الحديثة" وسيلة للكتابة الجادة والخطاب الرسمي في كل أنحاء العالم العربي. لكن الطلبة الغربيين الذين يلتحقون بصفوف لدراستها سرعان ما يكتشفون أن أحداً لا يتحدث بهذه اللغة "المعيارية" كلغة محلية أصيلة؛ وهناك الكثير من العرب الذين بالكاد يتحدثون بها من الأساس. واللغة العربية الفصحى الحديثة مبنية على لغة القرآن العربية الكلاسيكية -الذي كُتب في القرن السابع الميلادي- مع مفردات إضافية متعلقة بالحياة المعاصرة. 
لكن اللغة الشفهية لا تبقى ثابتة لأربعة عشر قرناً، و"العربية" المحكية هي في الحقيقة مجموعة من اللهجات المختلفة بما يكفي لاعتبارها لغات مختلفة. وهي توضع في كثير من الأحيان في خمس فئات تقريبية: الأفريقية الشمالية؛ والمصرية؛ ولهجة ما بين النهرين؛ وبلاد الشام؛ وعربية شبه الجزيرة العربية. ويمكن أن يصارع المتحدثون من المناطق القصية في سبيل فهم لهجات بعضهم بعضا.
تصل النسخة الفصحى من العربية بين العرب من هذه المناطق بطريقة تشبه عموماً ما تفعله اللاتينية اليوم باللغات الرومانسية. ولنتأمل العربية المحكية السورية. في هذه اللهجة، تبقى بعض الكلمات متطابقة مع أسلافها الكلاسيكية. لكن بعض الأصوات تختفي، وأخريات تتغير جملة وتفصيلاً: على سبيل المثال، يتحول صوت "ذ" ليصبح "د"، "س"، "ت" أو "ز". وهناك بعض الكلمات في اللهجات مستعارة من اللغات الأوروبية، مثل "تلفون" (telephone)، التي تُستخدم إلى جانب كلمة "هاتف" العربية الفصحى. وتعني كلمة "حكى" قصَّ قصة في الفصحى، لكنها تعني "يتحدث" فقط في اللهجة السورية. والقواعد مختلفة كليّة: فاللهجات أبسط من العربية الفصحى، ولكن تعلم الفصحى يظل حتمياً في الغالب.
بعبارات أخرى، يحتاج الأجنبي الذي يريد أن يقرأ العربية ويتحدث بها معاً إلى اكتساب، إن لم يكن لغتين كاملتين، فلغة ونصف على الأقل. والأسوأ هو أن أياً من اللهجات العربية المحلية ليست كبيرة بما يكفي لتلعب الدور الذي تلعبه المندرينية في العائلة الصينية. وكانت اللهجة المصرية هي المعروفة أكثر ما يكون بين اللهجات، بفضل ثقل الدولة من ناحية السكان والثقافة. لكن متحدثيها الأصليين مقتصرون في المعظم على مصر، باقتصادها وسياستها الراكدَين. فلا عجب في أن يكون التآكل بين متعلمي العربية مرتفعاً؛ من بين كل خمسة أشخاص يدرسون العربية، يصل واحد تقريباً إلى الصفوف المتقدمة.
بالنسبة للعرب، تشكل اللهجات مشكلة أقل مما قد يوحي به كل هذا. فعن طريق الارتجال، يستطيع العرب من المناطق المختلفة التحدث مع بعضهم البعض. وهم يستخدمون الميزات المشتركة عبر اللهجات الأكبر، وكذلك أجزاءً من العربية الفصحى، بينما يتجنبون التحدث بخصوصيات لهجاتهم قدر الإمكان.
ثمة مشكلة أكبر هي طبيعة العربية الفصحى الحديثة. وحتى يقرأوا ويكتبوا، يستخدم بعض العرب بشكل أساسي لغة أجنبية حيث يتم تدريس العربية بطريقة محافِظة وروتينية في المدارس. ومع أن البعض يدرسونها بسعادة، مفتخرين بتاريخ العربية الطويل، وقواعدها المعقدة والغامضة أو صلاتها الحميمة بالإسلام، فإن الكثير من الناس العاديين يفضلون القراءة والكتابة بلغات مثل الفرنسية أو الإنجليزية. ويتحدث بالفرنسية، التي يفترض أنها في انحدار، ربع عدد المتحدثين الأصليين بها، لكنها تمتلك هالة أكبر من العربية بكثير. وكمثال لتقريب الفكرة فقط، هناك عدد من المواد والمقالات باللغة الفرنسية في موقع "ويكبيديا" أكثر بثلاث مرات من مثيلاتها بالعربية، مع خمسة أضعاف عدد التعديلات. ويبلغ حجم سوق الكتب العربية نحو ربع حجم نظيره في بلجيكا.
كل هذا عار. ربما يربط الكثير من الغربيين اللغة بالأنظمة الاستبدادية الحالية في الشرق الأوسط اليوم، لكن هناك ما هو أكثر من هذا بكثير في العربية. إنها لغة فلسفة موسى بن ميمون اليهودي في العصور الوسطى، ولغة روايات نجيب محفوظ وأغاني فيروز. وليست هناك منطقة، ولا شعب ولا لغة، يمكن الحكم عليها أبداً على أساس السياسة وحدها.

*نشر هذا المقال تحت عنوان: Arabic, a great language, has a low profile

 

الغد