عن الثورة المطلوبة فى مجال التعليم : إو تقعد ملوما محسورا

أ. محمد الخولى

 

معالى الدكتور وزير التربية والتعليم لايفتأ يتحدث، ومعه كل الحق، عما يصفه بأنه "ثورة فى مجال التعليم".

واللهم لا اعتراض على حكاية الثورة التى لايلبث صاحب المعالى سالف الذكر يربط بينها وبين "التابلت" الذى يسابقون الزمن من أجل توفيره بين يدى التلاميذ فى شتى مراحل التعليم.
 
وبديهى أن اللوح الإلكترونى المذكور أعلاه، وله كل التجلّه ومزيد الاحترام، يجسد روح العصر ويومئ إلى ثورة أخرى هى الرقمية (ديجيتال) التى لابد من خوض غمارها من أجل تجسير الهوة الفاصلة بين أوضاعنا وبين أوضاع أقوام آخرين سبقونا للأسف فى مضمار التعامل تربوياً وتثقيفياً مع تجليات الحاسوب.
 
لكن علينا أن نتنبه إلى أن هذه التجليات كلها.. يمكن أن تذروها رياح الزمن ما لم يكن موضوعها جيلاً من ناشئة هذا الوطن نكون قد استطعنا بكل جهد من جانبنا كتربويين ومثقفين أن نربيه على أساس من اللغة القومية السليمة ومن منطلق المقولة الراشدة والذائعة أيضاً وهى:

.. إذا صَلُحت لغة قوم.. صَلُح فكرهم .
 
وبديهى أيضاً أن لن تصلح لغة القوم فى مصر المحروسة إلا إذا نشأت الأجيال البازغة من هذا القوم أولاً على حب هذه اللغة ومن ثم على الشغف بها واحترامها واستخدامها وسيلة للفهم والتفاهم والتواصل والتعبير وأداء شتى مهام الحياة.
 
ولعل أفراد الأجيال المخضرمة يذكرون أيام نشأتهم الأولى إذ كان أهلوهم يصحبونهم فى المواصلات العامة.. فإذا بالطفل– الطفلة.. يروض لسانه وذاكرته ومفهوميته على قراءة واستيعاب واجهات المحلات ولافتات الشوارع المكتوبة أيامها باللغة العربية بحروفها الطلية البارزة التى كانت تتفنن فى رسمها مواهب الخطاطين .. قارن سيادتك بنفس الواجهات واللافتات فى أيامنا الراهنة وقد تغيرت أحوالها حيث وُئدت الحروف العربية واستشرت الحروف والألفاظ والعبارات الإنجليزية ابتداء من "مينى ماركت برعى عبد الشكور"، وهو أهون الشرور.. وليس انتهاء بعبارات ومفاهيم وشعارات ودعوات مرفوعة على أعلى وأغلى اللافتات فى أبرز مواقع الشوارع والميادين والجسور وكلها بالإنجليزية.. وهى عبارات ومختصرات تعكس فى تصورنا عالم "الكمباوند" لغة وفكراً وطبقية واغتراباً باستعلاء مقيت ومخيف أيضاً عن وجدان مصر وعالم المصريين.
 
من هنا، وبكل تواضع، فإن ما نطالب به من ثورة أصيلة فى مجال التربية والتعليم إنما يتمثل أولاً وقبل كل شئ فى تكريس وتركيز الاهتمام بتعليم اللغة العربية، قبل تعليم أى لغة أجنبية أخرى.
 
وربما يسلّم خبراء العلم التربوى بمدى أهمية البدء بتعليم التلميذ مبادئ لغته القومية – الفصحى بطبيعة الحال- على مدار السنوات العشر سنوات الأولى من العمر.. وبحيث لا تنافسها أو تشاركها لغة أخرى.
 
ولا ينبغى أن يقتصر الأمر على ما يشهده ويعايشه التلميذ فى حجرة الدراسة.. المسألة ينبغى أن تتعدى وتتعمق بحيث تشمل الفصول المسرحية باللغة العربية- وأصول الخطابة وحسن الإلقاء وقدرات المناظرة وتحرير مجلات الحائط وما فى حكمها.. طبعاً حسب المستوى وباستخدام الجواذب اللفظية والتشكيلية والإعلامية التى تناسب مرحلة الطفولة وتحبّب اللغة بألفاظها وصورها وأخيلتها إلى التلميذ الدارس، بعيداً عن تعقيدات النحو وفى ظل جهود مستنيرة تربط بين ما يتلقاه المتعلم الصغير الناشئ فى حجرة الدراسة أو فى أروقة المدرسة وبين ما يتعايش معه على مستوى الشارع أو النادى أو جماعة الرفاق أو أمام شاشة التليفزيون وغيره من وسائل الإعلام.
 
وبمناسبة الإعلام فلا بديل من مراجعة شاملة.. أمينة وعميقة واحترافية أيضاً للتركيز على تدارس لغة مذيعى الراديو والتليفزيون الذين لم تعد تعنيهم كثيراً العربية الفصحى الصحيحة ألفاظاً وضبطاً ونطقاً.. ومنهم من بات فى حالة استسهال – هل نقول استهتار- من حيث تجنّب فصحى الحوار رغم تبسيطها بحكم التعريف وإنما هى مسألة انغماس فى حالة الاستظراف باستخدام العامية أحياناً.. أو بالاستغراق فى المصطلحات الأجنبية بالإنجليزية أحياناً أخرى.
 
والجماعة، بكل صراحة، معذورون. وما على سيادتك إلا أن تصغى – أعانك المولى على أمرك- إلى ما يفوه به كبار القوم من وزراء ومسئولين وقادة ونواب ومن فى حكمهم كى تدرك لماذا يتقلب المرحوم "سيبويه" على جمرات الغضب والحسرة فى مثواه الأخير.
 
ولن نتغافل فى هذا السياق، عن المسئولية الوطنية والتاريخية التى ينبغى أن تتحملها وتنهض بها منظومة المجمع اللغوى الكلّى الاحترام.

على المجمع أن ينهض حثيثاً إلى تفعيل القانون واللوائح التى تنص على مسئوليته تجاه الحفاظ على اللغة القومية.. وهى مسئولية ربما تبدأ بالعمل على تبسيط اللغة وإقامة جسور التواصل بينها وبين ما يستجد من ألفاظ ومفاهيم ومصطلحات جاءت بها ومابرحت تجئ به ثورة الحواسيب وانفجار ظاهرة تكنولوجيا المعلومات والاتصال.
 
ثم لا نملك فى هذا السياق بالذات، ومن واقع خبرة شخصية وممارسة مهنية دامت على مدار الأعوام الثلاثين الأخيرة، سوى أن نؤكد على ضرورات التواصل الدينامى والتفاعل المستمر بين منظومة المجمع المصرى وسائر مجامع اللغة فى مختلف الأقطار العربية وبين "دائرة الترجمة العربية" بالأمم المتحدة فى نيويورك، ومثيلاتها من أقسام وإدارات الترجمة العربية فى سائر فروع المنظمة الدولية، ولاسيما المتخصصة منها.. وكلها تتعاطى بشكل يومى مع ما يستجد فى حياتنا كبشر وكشعوب عربية من مفاهيم ومصطلحات تصلح بحكم التعريف، فى إثراء القاموس المعرفى القومى وفى تزويده بكل ما تتطلبه نواميس التطور من أفكار وألفاظ ومصطلحات.
 

البشاير