الترجمة الأدبية بين التشريح والولادة والتبني

أ. آية الأتاسي

 

«ما زلت إلى الآن أرى الألوان بالعربية، وعندما أحاول رؤيتها بلغة أخرى تفقد بريق دهشتها الأولى»، هذا ما قاله لي صديق يعيش في الغربة.

هي «اللغة الأم» إذن، التي تترك إحساسا كالنمل الخفيف يسري في الجلد، عندما يستمع المغترب مثلا إلى أغنية بلغته الأصلية وكأن سواها مزيف، أو يسترق السمع إلى حوار «غرباء» يتكلمون لغته، ولكن تكفي موسيقية الكلمات في ذاكرته لجعلهم أقرباء على نحو ما. فمهما تكلم الإنسان من لغات أجنبية، تبقى اللغة الأم لسان حاله، بها يتحاور مع ذاته ويرى أحلامه، وبها يعبر عن أحزان تستعصي على أي ترجمة. ومثلما لا يستطيع الإنسان أن يخرج من جلده، كذلك هي حاله مع لغته التي تظل ملتصقة بالعظم والدم والشرايين، مهما ارتدى المرء فوقها من ثياب ولغات. ولا يختلف «كاتب المهجر» في هذا عن المهاجر العادي، سوى في أنه يعيش علاقة عاطفية عميقة باللغة، ويخوض باسمها ومعها نقاشات وحوارات عديدة، وقد يعثر على نفسه في لحظة ما، وهو يتفاوض مع اللغات التي تتصارع في رأسه للعودة بالكتابة إلى الأصل، فالكتابة تعرٍ ومكاشفة مع الذات ولا تحتمل التزوير.ولغة الذات هي «اللغة الأم» مهما ابتعدت وقست، يستطيع الكاتب دوما التحايل عليها وتذكيرها بالحنان. «حنان» يقود الكاتب في الغربة إلى «الحنين»، وكأنه يسكن بيتا مستأجرا اسمه «اللغة الأجنبية» ويسدد ديونه باسم الحنين، كما قال سركون بولص: «اللغة الأجنبية هي مكان عيش وليست وطنا، لا نستطيع أن نمتلك وطنا مرتين، بالنسبة لي اللغة العربية هي الوطن الحقيقي الوحيد الذي أملك، وهي الحبل السري الذي يربطني بشعبي وتاريخي». تشبيه سركون دقيق إلى حد بعيد، فاللغة الأم هي فعلا وطن بديل، لا يعتقل ولا يعذب باسمه، ولا يتبرأ من أبنائه، ولا يقطع ألسنتهم.
 
الترجمة كجسر: لاريسا بندر وليلى الشماع – نموذجا

في زمن العولمة لم تعد لغة واحدة تكفي للتواصل مع العالم الخارجي، الذي صار بحجم غرفة معيشة بنافذة افتراضية. وبهذا المعنى فإن الترجمة هي وسيلة للخروج من «قفص» الذات الضيقة إلى العالم الواسع. ح يقال: «الترجمة هي جسر يصل بين عالمين مختلفين»، ولكن هل هما عالمان مختلفان فقط، أو عالمان لا يتصلان إلا عبر هذا الجسر. الحقيقة أن للغات منطقا خاصا، ففي اللغة الألمانية التي لا تربطها بالعربية صلة قرابة أو تاريخ استعمار، قد يجد المرء نقاط التقاء غريبة، كما أوضحت المترجمة ليلى الشماع، في المحاضرة التي تشاركت فيها مع زميلتها الألمانية لاريسا بندر في مدينة هايدليرغ الألمانية. أمام حضور في غالبيته من الألمان، قامت الشماع بمقارنة طريفة بين كلمات لها اشتقاقات متشابهة في اللغتين: فما الرابط بين «مثال» و«ممثل» في العربية، وما السر في أنهما يشتقان من الجذر نفسه في الألمانية أيضا؟ أو مصطلح «الشهر الجاري» مثلا، الذي نعثر عليه في صيغته نفسها في الألمانية. وحتى الأعداد لها منطق متشابه في اللغتين، ويختلف تماما عن اللغات الأخرى. أما علاقة ليلى الشماع بالترجمة فهي موغلة في القدم، وكأنها مترجمة بالسليقة، فقد اعتادت منذ طفولتها أن تلعب دور المترجمة بين الأب اللبناني والأم الألمانية، وهكذا كانت الترجمة فعلا عفويا، وتعبيرا عن حب وتواصل بين عالمي الوالدين. «العربية» بهذا المعنى كانت «لغة الأب» للمترجمة، التي تقفز بخفة بين اللغتين، تماما كما كانت تقفز بين ذراعي الأب والأم عندما كانت طفلة. وكأن الترجمة بالنسبة لها، كانت الحل الأمثل لازدواج الهوية، واللحظة التي تحضر فيها اللغتان في آن معا. الوضع بالنسبة إلى لاريسا بندر مختلف قليلا، فعلاقتها باللغة العربية تعود إلى طفولتها، عندما رافقت عائلتها في زيارة إلى المغرب، ووقعت حينها أسيرة سحر هذا العالم وأحرفه التي تلتف على بعضها كلوحة فنية، ومن ثم جاء اكتشاف سوريا وهي شابة، عندما تعقبت أثر اللغة فوقعت في حب البلد، مثلما وقعت في حب الصحافي والمعارض السوري أحمد حسو، الذي أصبح في ما بعد شريك الحياة، كما أصبح الأدب السوري موضوعها الأول في الترجمة.
 
اليوم تجد المترجمتان نفسيهما أمام طلب متزايد على ترجمة الأدب العربي، الذي كان في ما مضى مدانا وينظر إليه بعين الربية والشك، أو في أفضل الأحوال بعين استشراقية نمطية. عن هذا قالت لاريسا بندر: «بعد الربيع العربي وموجة اللجوء إلى ألمانيا، اكتشف الألمان أنهم لا يعرفون الكثير عن العالم الذي يأتي منه القادمون الجدد، وعلى الرغم من أن الإعلام ركّز في البداية على المعاناة الفردية وقصص اللجوء، لكن هذه القصص ليست بديلا عن الأدب». وبندر محقة في هذا، فمن يقرأ الأدب العربي مترجما، قادر على فهم المنطقة بشكل أفضل بكثير ممن يستقي معلوماته من نشرات الأخبار، أو من المحاضرات المختصة، وهنا تكمن معجزة الأدب وبلاغته. في نهاية مداخلتها لفتت بندر النظر إلى أن الاهتمام الألماني اليوم لم يعد مقتصرا على الأدباء المخضرمين، بل بات يشمل كتابا جددا، هم في غالبيتهم من الشباب، الذي لجأ إلى أوروبا هربا من القمع والملاحقة، ووجد في المجتمع الجديد موطئ قدم، وفي فضول الغرب فرصة للكتابة والتنفس من خلال رئة الذاكرة. لكن مع هذه الظاهرة التي ولدتها موجة اللجوء الأخيرة، ولدت مخاوف وأسئلة كثيرة: فهل ما يكتب من شهادات يندرج تحت خانة «الأدب»؟ وهل سيطلق مستقبلا على هؤلاء الكتاب لقب «كتاب اللجوء» أو «كتاب المهجر»، كما كان عليه الحال مع أدباء المهجر في القرن العشرين، أم هل سيبقون «الكتاب الضيوف»، كما أطلق الألمان مصطلح «العمال الضيوف» على العمال القادمين من مدن الجنوب، ثم تحول الضيف إلى «غريب» لا يغادر. وهل سيبقون غرباء على لغة لا يعثرون فيها على مرادف لـ«الغربة» سوى «وجع الوطن» الألماني، الذي لا يغوص في عمق الألم، كما تفعل «الغربة» بمعناها العربي البليغ. كلها أسئلة برسم المستقبل، مستقبل المنطقة السياسي، ومستقبل لغة تنبت فيها الأرواح كأشجار، يستحيل اقتلاعها.
 
الترجمة وتشريح النص

بشكل موازٍ لمداخلة بندر، وكمدخل إلى العربية، طرحت زميلتها ليلى الشماع على الحاضرين الألمان سؤالا محددا: «ماذا يتوارد إلى ذهنكم عندما ترون نصا بالعربية أو تسمعون شخصا ينطق بها؟ الأجوبة تنوعت بين: « كتابة معكوسة من اليمين إلى اليسار»، «أصوات عميقة مقبلة من مكان غائر في الصدر»، «أحرف تهبط وتصعد ثم تتشابك فتنفصل». عند هذا التشبيه الأخير توقفت الشماع مطولا، وأعربت عن موافقتها على تشبيه الجملة العربية ببناء متعدد الطبقات مع التركيز على السطح «التشكيل» الذي يغطي الحروف ومن دونه تبدو عارية. وعند السطح اعترفت الشماع بأنها بداية كانت تشعر بالحرج في تشكيل النصوص قبل ترجمتها، إلى أن شاهدت شاعرا يشكل نصه قبل قراءته، فازدادت ثقتها في تأمل اللغة من السطح، حيث تتضح الرؤية ويتسع المعنى.
وفي حين يأتي المعنى في العربية في نهاية الكلمة، نجده في الألمانية في نهاية الجملة، وهنا حنكة «الألمانية» التي تجبر الآخر على الإصغاء حتى النهاية ليكتمل المعنى. أما عن الجسر بين اللغتين أي «الترجمة»، فقد أفردت الشماع حيزا واسعا من مداخلتها، وسمحت للحضور بالدخول إلى كواليس الترجمة، مستعينة بمقطع صغير من رواية «كأنها نائمة» للروائي إلياس خوري، التي قامت بترجمتها إلى الألمانية. ولتوضيح هذا وضعت الجملة التالية من الرواية: «انشقت أهداب ميليا عن عينين يغطيهما النعاس، فقررت أن تغمضهما من جديد وتتابع المنام». بداية قامت بترجمتها حرفيا، قبل أن تعرض المراحل الخمس المختلفة التي مرّ بها النص، إلى أن استكان أخيرا في صيغته الجاهزة للنشر. وتطرقت في ما بعد إلى المصاعب التي واجهتها في الترجمة، كإيجاد صيغة ألمانية فصيحة لكلمة مثل «انشقت» التي لا تتناسب في الألمانية مع كلمة أهداب، ما دفعها في النهاية إلى استبدال كلمة أهداب بجفون ليصح الشكل والمضمون في النسخة الألمانية.
مشاكل الترجمة التي واجهتها الشماع بدت غريبة لشخص قرأ النص مثلي بالعربية، وشعر به سهلا وعذباَ كالماء، حتى بدوت في تفهمي للنص العربي وحيدة بين الوجوه الألمانية حولي. لوهلة تساءلت هل هذا هو معنى «اللغة الأم»، أن تسري في دمائنا قريبا من القلب وبعيدا عن أي محاكمة منطقية أو عقلية، وتخيلت لوهلة كيف سيبدو النص لو أن مترجما خطر في ذهنه أن يأخذ النص من ترجمته الألمانية ويعود به إلى لغة الضاد.
من المؤكد أن النص سيكون مختلفا تماما عن أصله، حيث كل نص يكتب من جديد بأيدي المترجم، مثله كمثل النوتة الموسيقية، يكتبها مؤلف موسيقي واحد ويعزفها كل موسيقي بطريقة مختلفة.
في نهاية المحاضرة، وبعد أن غادر الجميع… وقفت أمام نص ألياس خوري، وحاولت قراءته بالألمانية وكأنني لا أعرف أصله، فراقني بصيغته الجديدة، وتساءلت ما الذي أخافني إذن في رحلة النص نحو الألمانية. وقلت لنفسي: إنه «التشريح»… شعرت بأنني كنت حاضرة في مشهد تقطيع النص وتشريحه في سبيل ولادته الألمانية. وفي الترجمة كما في الولادة يسمح عادة للزوار «القراء» برؤية المولود الجديد، لكن لا يحق لهم دخول غرفة العمليات، ورؤية المشارط والدماء التي تتطاير بين الأسطر وفوق رؤوس الكلمات. وبعيدا عن التشريح، الذي لا يستقيم مع نص أدبي حي يرزق، وإن هاجر وتغرب، أجدني في النهاية أميل إلى تشبيه الترجمة بالتبني، قد تعجز «الأم بالتبني» عن منح النص الأدبي حنان «اللغة الأم»، ولكن من دونها سيبقى النص يتيما ووحيدا في بلاد الآخرين البعيدة.
 

القدس العربي