عثمان سعدي: لوبي فرانكفوني وراء تجميد قانون استعمال العربية في الجزائر

بوعلام غمراسة

انتقد الدكتور عثمان سعدي رئيس «الجمعية الجزائرية للدفاع عن اللغة العربية» بالجزائر «تجميد» قانون تعميم استعمال اللغة العربية، الذي صدر عام 1990، وحمل «النخبة الفرانكفونية النافذة» في الدولة مسؤولية ذلك. وقال في حوار أجرته معه «الشرق الأوسط» في الجزائر، إن «أعداء الحرف العربي استأسدوا في عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة»، واعتبر أن «أسوأ فترة حكم عرفتها اللغة العربية هي فترة حكم عبد العزيز بوتفليقة».

وانتقد بشدة أيضا موقف الرئيس الراحل محمد بوضياف من اللغة العربية، معتبرا أنه «كان من أشد رؤساء الجزائر عداء للعربية». لكنه في المقابل أشاد بموقفي الرئيسين السابقين الشاذلي بن جديد واليامين زروال، وقال إن «اللوبي الفرانكفوني أنهى مهام الرئيس الشاذلي بن جديد لأنه وقّع قانون تعميم استعمال اللغة العربية، وأنهى مهام الرئيس اليامين زروال لأنه ألغى تجميد القانون المذكور».

ولاحظ سعدي أن «الفرنسيين الذين يحاربون قانون العربية بالجزائر لهم قانون حماية اللغة الفرنسية الصادر في 1994، بمناسبة ذكرى مائتي سنة لقانون تعميم استعمال اللغة الفرنسية، الذي أصدرته الثورة الفرنسية سنة 1794». وأشار إلى أنه «في الجزائر وأقطار المغرب العربي أربع لغات، هي العربية الفصحى، والعربية الدارجة، والبربرية، والفرنسية. أما في فرنسا فهناك ست لغات جهوية أكثر عراقة من اللغة الفرنسية»، لكن الدولة الفرنسية «ترفض الاعتراف بها». وفيما يلي نص الحوار:

* ما مصير قانون تعميم استعمال اللغة العربية الذي صدر منذ سنوات طويلة؟

- أصدر المجلس الشعبي الوطني (البرلمان) قانون تعميم استعمال اللغة العربية يوم 27 ديسمبر (كانون الأول) 1990، ووقعت ضغوط شديدة على الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد من أجل عدم توقيعه وإعادة قراءته بالمجلس، وحشد الجهود حتى لا يفوز مرة ثانية. لكن الرئيس أصر على صدور القانون ووقّعه في 16 يناير (كانون الثاني) 1991، انطلاقا من إيمانه بالعروبة وحبه للغة الضاد. ومنذ هذا اليوم راح اللوبي الفرانكفوني المتنفّذ في الدولة، وبخاصة في وزارة الدفاع، يعمل لعزله. وجاءت الفرصة فعزل الشاذلي بن جديد يوم 11 يناير (كانون الثاني) 1992، بعد الانتخابات التشريعية التي جرت في 26 ديسمبر (كانون الأول) 1991، والتي فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ.

وقد ترأس العسكريون الفرانكفونيون هذا العزل وعلى رأسهم الضابط السابق في الجيش الفرنسي، اللواء خالد نزار. وصار اللواء خالد نزار هو الذي يصنع رؤساء الدولة، فأحضر من مدينة الناظور في المغرب محمد بوضياف المعادي للغة العربية، فترأس المجلس الأعلى للدولة، وأصدر توجيهاته إلى المجلس الاستشاري الذي أسس بالتعيين لا بالانتخاب، برئاسة رضا مالك المعادي للغة العربية، والذي خلف المجلس الشعبي الوطني الذي حُلّ، فقام بإعداد مرسوم تشريعي جمد قانون تعميم استعمال اللغة العربية، صدر في 4 يوليو (تموز) 1992.

والمعروف أن بوضياف كان غير متحمس للغة العربية، وربى أبناءه بالناظور بالفرنسية، فوضعهم في مدارس البعثة الفرنسية لا في المدارس المغربية، فجاءوا لا يحسنون التحدث ولا الكتابة باللغة العربية، ولو بالدارجة. واستمر القانون مجمدا إلى أن ألغي التجميد بمرسوم أصدره الرئيس اليامين زروال في 21 ديسمبر (كانون الأول) 1996، وأسس المجلس الأعلى للغة العربية لتطبيق القانون. وقرر اللوبي الفرانكفوني، وبخاصة بوزارة الدفاع، تنحية اليامين زروال لأن المس بسطوة اللغة الفرنسية على الدولة يعتبر خطا أحمر، ودُفع زروال إلى الاستقالة.

وجاء بعد ذلك عبد العزيز بوتفليقة ففهم اللعبة جيدا فقام بتجميد قانون تعميم استعمال اللغة العربية دون مرسوم، وحول المجلس الأعلى للغة العربية، الذي مبرر وجوده تطبيق قانون اللغة العربية، إلى هيئة استشارية تنشط في كل المجالات ما عدا تطبيق القانون المذكور. كما تحول في عهد بوتفليقة مجمع اللغة العربية الجزائري إلى هيكل ميت، يتكون من رئيسه فقط، فهو المجمع الوحيد في العالم وفي التاريخ الذي يتكون من رئيسه فقط، دون برنامج ودون نشاط ودون إنتاج طوال ثماني سنوات، وهذا يعتبر قمة العبث بلغة الضاد في بلد المليون ونصف المليون شهيد، الذين ضحوا من أجل جزائر بإسلامها وعربيتها، وتحديا للدستور الذي ينص في مادته الثالثة على أن اللغة العربية هي اللغة الوطنية والرسمية. لقد استأسد المعادون للغة العربية والمناصرون لهيمنة اللغة الفرنسية على الدولة في عهد بوتفليقة.

* ما مدى صحة الأخبار التي تفيد بأن الجزائر تتعرض لضغوط خارجية، لمنع استعمال العربية كلغة تداول في الإدارة والمؤسسات والهيئات؟

- الفرنسيون يعتبرون خطا أحمر تعريب ثلاثة ميادين: إدارة الدولة الجزائرية، والاقتصاد، وتعليم العلم والتقانة بالجامعة. عندما صدر قانون تعميم استعمال اللغة العربية عن المجلس الشعبي الوطني يوم 27 ديسمبر (كانون الأول) 1990 أدلى وزير الفرانكفونية الفرنسي ألان ديكو في نفس اليوم بتصريح معاد للقانون، وشنت الصحافة الفرنسية حملة ضارية عليه. وعندما ألغى الرئيس اليامين زروال تجميد القانون تحرك النواب الفرنسيون في البرلمان الأوروبي، الذي أصدر في نوفمبر (تشرين الثاني) 1997 بيانا بواسطة لجنته الفرعية لحقوق الإنسان جاء فيه: «إن سياسة التعريب جاءت نتيجة عمل فوج في ميثاق 1976، وإن اللغة العربية التي فرضت على المجتمع الجزائري هي اللغة الفصحى، وهي لغة مصطنعة بعيدة عن المجتمع، وعن العربية التي يتكلمها الشارع الجزائري، فالعربية الفصحى فرضت عنوة في التعليم والقضاء، وقد ألحق تعليم الفصحى الضرر بالفكر، ومكن الفكر الأصولي الظلامي الديني من الانتشار، وأدخل الحركة الإسلامية للبلاد».

فرنسا ممثلة في اللوبي الفرانكفوني بالجزائر الماسك برقاب الدولة الجزائرية، وهو يحارب التعريب والعربية. لقد ملأ الساسة الجزائريون الدنيا بالتصريحات المستنكرة لقانون 23 فبراير (شباط) 2005 الفرنسي، الذي يعتبر الاستعمار الفرنسي إيجابيا للجزائر وخاليا من الشرور، إلا أنهم يتجاهلون أن عمق الاستعمار الفرنسي هو اللغة الفرنسية المسيطرة على الدولة الجزائرية، وأن الإبقاء على هيمنة هذه اللغة هو اعتراف رسمي من الدولة الجزائرية بإيجابية الاستعمار وخلوه من الشر. لقد أنهى اللوبي الفرانكفوني مهام الرئيس الشاذلي بن جديد لأنه وقّع قانون تعميم استمال اللغة العربية، وأنهى مهام الرئيس اليمين زروال لأنه ألغى تجميد القانون المذكور.

ومن الغريب أن الفرنسيين الذين يحاربون قانون العربية بالجزائر لهم قانون حماية اللغة الفرنسية الصادر في 1994، بمناسبة ذكرى مائتي سنة لقانون تعميم استعمال اللغة الفرنسية، الذي أصدرته الثورة الفرنسية سنة 1794، والقانون الجديد أكثر صرامة من قانون الجزائر، وقد وضع لمواجهة غزو اللغة الإنجليزية والذي أخذ اسم قانون «توبون»، نسبة إلى وزير الثقافة السيد جاك توبون الذي كان وراء صدوره. ومن الغريب أيضا أن الفرنسيين الموحدين لغويا في فرنسا يعملون على تعدد اللغات بالمغرب العربي، ويقولون إن في الجزائر وفي أقطار المغرب العربي أربع لغات: العربية الفصحى، والعربية الدارجة، والبربرية، والفرنسية. أما في فرنسا التي توجد بها ست لغات جهوية أكثر عراقة من اللغة الفرنسية فالدولة ترفض الاعتراف بها، وآخر قرار صدر من مجلس الشيوخ الفرنسي يوم 18 يونيو (حزيران) 2008 يرفض الاعتراف باللغات الجهوية التي تهدد، في رأيه، الوحدة الوطنية الفرنسية، التي تكون حمايتها من وحدانية اللغة.

* كيف تقيّمون وضع اللغة العربية في فترة حكم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة؟

- أسوأ فترة حكم عرفتها اللغة العربية هي فترة حكم عبد العزيز بوتفليقة. انتخب بوتفليقة في أبريل (نيسان) 1999، وفي مايو (أيار) من نفس السنة ألقى خطابا أمام الطلبة الجزائريين شكك فيه في كفاءة اللغة العربية في تعليم العلوم، وردت عليه «الجمعية الجزائرية للدفاع عن اللغة العربية» برسالة مفتوحة نشرت بالصحف يوم 28 مايو (أيار) 1999. دشن عهدته الأولى، فزار فرنسا زيارة دولة رسمية في يونيو (حزيران) 2000، وألقى خطابا أمام البرلمان الفرنسي، وتصور البرلمانيون الفرنسيون أن بوتفليقة سيحترم السيادة الوطنية التي يمثلها ويتكلم باللغة العربية، فوضعوا السماعات على آذانهم لكنهم فوجئوا أنه يخطب بالفرنسية، فابتسموا وهم يبعدون السماعات، وهذه رسالة موجهة إلى فرنسا تقول لهم: «أنا مخلص للغة الفرنسية ولن أخونها». استأسد في عهد بوتفليقة أعداء الحرف العربي، فُرْنِس المحيط، ففي شوارع الجزائر صارت المحلات بها مكتوبة بالفرنسية فقط إلا ما ندر، وهُمّشت اللغة العربية، وحُوربت الجمعيات التي تدافع عن لغة الضاد. في عهد بوتفليقة بدأ التآمر على المدرسة الوطنية التي تعتبر قلعة اللغة العربية، فصدر قرار بتقديم تدريس اللغة الفرنسية من السنة الرابعة إلى السنة الثانية ابتدائي، وهو قرار يتنافى مع أبسط القواعد التربوية التي تعمل بها حتى فرنسا، والتي ترى أن اللغة الأجنبية ينبغي أن تدرّس بعد أن يتمكن الطفل من لغته الوطنية، ففرنسا مثلا تدرس اللغة الأجنبية في السنة السادسة ابتدائي.

العربية تكتب من اليمين إلى اليسار، والفرنسية من اليسار إلى اليمين. لقد شاهدت أطفالا يكتبون الحروف العربية من اليسار إلى اليمين. (الرئيس الأسبق الراحل) الهواري بومدين وقّع قانون المدرسة الأساسية سنة 1976، التي تشمل التدريس الإلزامي لمدة تسع سنوات بالعربية، وألغيت في عهد بوتفليقة وأبدلت بالنظام الفرنسي المتمثل في التعليم الابتدائي والمتوسط. منذ استقلال الجزائر عُرّب تعليم الرياضيات بالرموز العربية، وفي عهد بوتفليقة استبدلت الرموز الفرنسية بالرموز العربية تحت شعار الرموز الدولية. هذا هو وضع اللغة العربية والتعريب في عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، لقد صفيت الكثير من المكاسب التي حققتها لغة الضاد مند سنة الاستقلال.

* ما الدور الذي قامت به الجمعية في مجال الدفاع عن اللغة العربية؟

- أسست الجمعية الجزائرية للدفاع عن اللغة العربية سنة 1989 لتطبيق التعريب الذي تطالب به الجماهير، منحت لها الدولة مقرا فأثثته الجمعية بما قيمته سبعمائة ألف دينار جزائري من اشتراكات أعضائها، حاولت أجهزة الدولة تدجين الجمعية دون طائل، فقررت حينذاك التضييق عليها، فقطع هاتف المقر، ثم قطعت الكهرباء عنه، لكن الجمعية بقيت صامدة، وعندها قررت الأجهزة سحب المقر منها. ففي أول مايو (أيار) 1994 توجه رئيس الجمعية إلى مقرها وحاول فتح بابها فلم يدخل المفتاح، وفوجئ بسيدة فرانكفونية تطل عليه من نافذة المقر تحدثه بالفرنسية وتقول له إن هذا المقر صار ملكا لجمعية التبادل العالمي للشباب، وهي جمعية فرانكفونية. صودر المقر بسائر موجوداته.

اشتكت الجمعية دون طائل، فصار منزل رئيسها منذ ذلك التاريخ مقرا لها. وأوقفت وزارة الثقافة عن الجمعية المساعدة السنوية التي تقدمها للجمعيات الثقافية، فصارت الجمعية تسير بإمكانيات أعضائها القلائل. كل هذا يهدف إلى أن تنهي الجمعية مهامها وتنتهي، لكن الجمعية بقيت بفضل إصرار أعضائها الذين صاروا قلة، بسبب خوف الكثيرين من بطش أجهزة الدولة فتخلوا عنها.

نشاط الجمعية يتمثل في البيانات والرسائل المفتوحة التي تصدر في مواجهة الحرب على العربية والتعريب، وفي ندوات. وقد أصدرت الجمعية سنة 2005 كتابا عنوانه (الجمعية الجزائرية للدفاع عن اللغة العربية: خمس عشرة سنة من النضال في خدمة اللغة العربية)، ضم كل نشاط الجمعية، وفهرسا للأعلام يسرد الأسماء من رؤساء الدولة ووزراء ومسؤولين، وموقفهم من اللغة العربية والتعريب بالمواقف والحقائق. ومن الغريب أن الكتاب طبع بالدَّين نظرا لفقر الجمعية، لكن بمجرد أن اطلع عليه بعض المحبين للغة الضاد سددوا سائر تكاليف الطبع.

* هل هذا الوضع مطبق على دول المغرب العربي أيضا؟

- نعم، على دول المغرب العربي الأربع: تونس، المغرب، موريتانيا، الجزائر. أما ليبيا فوضع اللغة العربية بها رائع. فمثلا حاول البرلمان المغربي إصدار قانون تعميم العربية أسوة بقانون الجزائر، لكن الملك الحسن الثاني استعمل حق النقض ومنع صدوره. وتأسست جمعية مدنية بالمغرب، وهي «الجمعية المغربية لحماية اللغة العربية» سنة 2007، برئاسة الأستاذ موسى الشامي، وهي تناضل كجمعيتنا.

* ما رأيكم في التعريب بالمشرق العربي؟

- التعريب بسورية سليم، فمنذ 1920 والجامعات السورية تدرس سائر المواد بما فيها الطب باللغة العربية، جعلت عميد كلية جراحة الأسنان في باريس يقول: «إن معهدي يستقبل الطلبة من سائر أنحاء العالم العربي، وأفضل طلبة يستوعبون العلم هم الآتون من الجامعات السورية، والسبب في ذلك يعود إلى دراستهم الطب العام باللغة الأم». أما الأقطار العربية الأخرى بالمشرق فالتقانة والعلم بها يدرسان باللغة الإنجليزية.

العصر مطبوع بالطابع العلمي والتقاني، والعربية غائبة عن العصر ومحصورة في تعليم العلوم الإنسانية، وهذه أكبر مؤامرة على اللغة العربية. السبب في هذا الوضع يعود إلى مصر، فالطب والتقانة بها يدرسان بالإنجليزية، وفي عهد محمد علي الألباني كان العلم والتقانة يدرسان بالعربية، واحتُلت مصر من بريطانيا سنة 1882، وعين اللورد كرومر مسؤولا على التعليم بمصر لمدة ربع قرن، أنجلز فيه التعليم. وجاء عبد الناصر المصري العربي فلم يكن يملك وعيا لغويا يمكنه من تعريب كلية الطب والتقانة، ومن المحزن أن إسرائيل على حدود أرض الكنانة، العبرية بها التي أحييت من الموت سنة 1948 تدرّس بها سائر المواد بما فيها العلوم النووية في معهد وايزمان لعلوم الذرة. أرض الكنانة هي قاطرة القطار العربي والبلدان العربية قلدتها فلم تعرب العلوم وبقيت العربية خارج العصر.

والأمل في أن يهبّ خادم الحرمين الشريفين لإنقاذ لغة الضاد ولغة القرآن الكريم من الضياع التي تعاني منه الآن، فيؤسس مؤسسة اللغة العربية تشمل إصدار معجم للغة العربية التي لا تملك معجما قوميا تجدد طبعته كل سنة، بينما نجد العبرية تملك قاموسا يجدد كل سنة، وتشمل إصدار الموسوعة العربية، وترجمة أمهات العلوم والتقانة التي تكون أساسا لتعريب الطب والعلوم بالجامعات العربية. لقد كيّف أعداء العروبة السياسة والاقتصاد بالوطن العربي مثلما يريدون، وبقيت اللغة العربية الرابط الوحيد الذي يربط الأقطار العربية، وقد بُدئ في التآمر على هذا الرابط القوي بين العرب الذي يمنع الشتات العربي في العمق، ويحفظ الأمة العربية، وإذا ضاع هذا الرابط ضاع العرب.

الشرق الاوسط