لغة القانون وقوانين اللغة

 

تُعرف اللغة بصفة عامة بأنها مجموعة من الرموز الصوتية، التي يُرمز بها إلى المعاني والأفكار، وتحتاج اللغة الصوتية، إلى وجود شخصين على الأقل، متكلم ومخاطب حتى يتم التواصل والتفاهم.

فتستخدم اللغة في نقل فكرة من ذهن أحدهما إلى ذهن الآخر، ولكن ذلك قد لا يتيسر دائما، إذ قد يختلف مكان الاتصال، أو زمانه، أو الاثنين معاً، مما يضطر الإنسان إلى اختراع طريقة أخرى يستخدمها أداة للتواصل في حالة بُعد المسافة أو اختلاف الزمن. 

لذا لجأ إلى الرسم، ثم اخترع الكتابة، ولذلك تُطلق كلمة "لغة" على التعبير الصوتي الشفوي بالكلام، والتعبير التحريري البصري بالكتابة. 

وإذا كانت اللغة بمفهومها السابق، ما هي إلا وسيلة لنقل الأفكار، والتفاهم بين الناس، فإن واقع الحياة، وتجارب الناس اليومية، تدل على أن الناس يستخدمون طرقاً أخرى للتفاهم، ونقل الأفكار دون حاجة إلى كلام، أو كتابة، إذ قد يتم ذلك بالإيماءة، أو هزة رأس مثلاً. 

أضف إلى ذلك أن بعض الشعوب على مر التاريخ، مثل الهنود الحمر في أميركا الشمالية، وبعض قبائل أفريقيا، قد استحدثوا لغات متعددة من الإشارات المعقدة، مثل دقات الطبول، التي تُدق بطريقة ذات معان مفهومة بالنسبة لكل طرف من طرفي التواصل، بل إن بعض العبارات الشائعة مثل "لغة العيون" تذكرنا، بأننا نستعمل عادةً في حديثنا بعض النظرات ذات المعاني الواضحة المفهومة. 

كما يمكن التعبير عن بعض الأفكار بحركة، أو حركات معينة، وهو ما يُطلق عليها "لغة الجسد"، وهي تلك الحركات التي يقوم بها بعض الأفراد مستخدمين أيديهم، أو تعبيرات وجوههم، أو أقدامهم، أو نبرات أصواتهم، أو هز أكتافهم، أو رؤوسهم؛ ليفهم المخاطَب بشكل أفضل المعلومة، التي يريد أن تصل إليه، هذا فضلاً عن "لغة الإشارة"، التي يستخدمها البُكم للتواصل فيما بينهم، أو للتواصل مع غيرهم. 

وعلى الرغم من كل ذلك، فإن إطلاق لفظ "اللغة" على هذه الأشكال من أشكال التواصل، يظل من باب المجاز، ويظل مفهوم اللغة قاصراً على التواصل المنطوق، والاتصال المكتوب، دون سواهما من وسائل التواصل والاتصال الأخرى. 

لأن الفرق بين اللغة بوصفها أداة لنقل الأفكار، وبين الحركات، والإشارات الصوتية، ومشاكلها، هو أن المخاطب يستطيع باللغة المنطوقة، والمكتوبة، أن يتابع تطور سلسلة من الأفكار في ذهن المتكلم، هذا فضلا عن أن اللغة المنطوقة، والمكتوبة هي وعاء العلوم كلها، وأداة نقل ثقافة الآباء والأجداد إلى الأجيال القادمة. 

ولأهمية اللغة، فإن الأمم تعتز بلغاتها، وتتعصب لها، فهي كيانها، ودليل وجودها، وعنوان شخصيتها، ومستودع تراثها الحضاري، والثقافي، والعقائدي، وسبب مهم من أسباب وحدتها، ومطيتها للعبور إلى مستقبل مشرق. 

وإذا كان هذا هو حال الأمم جميعها، فإنه من واجبنا أن نعتز بلغتنا العربية، وأن نفتخر بها، وأن نهتم بتعلمها وتعليمها، وأن نأخذ بأسباب نشرها، فهي لغة القرآن، وبها تتحدث الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، كما يتحدث بها عدد كبير من أبناء الدول الإسلامية غير العربية، وقد صارت اللغة العربية في الوقت الحاضر لغة رسمية في كثير من المنظمات والمؤتمرات الدولية. 

ولأن اللغة تنمو مع الإنسان منذ طفولته، وتنمو مع نمو جسمه وطاقاته، وفطرته التي فطره الله عليها، وعقيدته التي يؤمن بها، فلا يمكن أن يكون اهتمامنا باللغة العربية قاصراً على تدريسها مقرراً دراسياً في مراحل التعليم قبل الجامعي، أو أن نؤسس لها الكليات المتخصصة في علومها وفنونها، بل يجب أن نجعلها محوراً أساسياً في بناء الإنسان العربي، ومحوراً للعملية التعليمية بكل مكوناتها، وعلى مختلف مستوياتها. 

وإذا كانت اللغة مهمة لعموم الناس، فهي لرجل القانون والمخاطبين بأحكامه أهم، إذ هناك علاقة وثيقة بين علم القانون، واللغة العربية، فاللغة العربية لا يحتاج إليها المفتي وحده، بل يحتاج إليها المفتي والمستفتي، والمدّعي، والمدّعى عليه، فتبديل حركة في حرف قد يُصيّر الحق باطلاً، والباطل حقاً. 

ومثال ذلك ما ذكره "ابن فارس" في رسالته "فتيا فقيه العرب" بأن رجلا ادّعى مالا بحضرة القاضي "أبي عبيد بن خربوبة"، فقال الرجل: مالُه عليّ حق "بضم اللام في كلمة مالُه"، فقال "أبو عبيد": أتعرف الإعراب؟ قال: نعم، فقال: قم قد ألزمتك المال". 

ولأن اللغة وعاء العلم فإن مَنْ لم يُجد اللغة، لن يجيد العلم الذي وقف نفسه على دراسته، لأن كل معنى من المعاني دقّ أو عظم يحتاج إلى لفظ ينقله من عقل إلى عقل، فاللغة هي الحاملة، والناقلة للعلوم والمعارف، ومن يُقصِّر في تعلمها، يكون قد قصَّر في تحصيل العلم الذي تخصص فيه. 

ويجب على طلاب القانون في الدراسة الأولية في كليات القانون "مرحلة الليسانس أو البكالوريوس"، أو في مرحلة الدراسات العليا "الماجستير والدكتوراه" التوسع في اللغة العربية، والثقافة اللغوية، فلا كمال لشخصية رجل القانون دون أن يستقيم لسانه، ويصح منطقه، ويحسن بيانه. 

فباللغة يقف على حقائق المشكلات التي تُعرض عليه، ويتجنب الظلم وضياع الحقوق نتيجة القصور في الثقافة اللغوية، فلا تُحجب عنه قضية، ولا يفتنه مدّعي أو مدّعى عليه ألحن بحجته من خصمه، ولا يفتنه سائل ماكر، عرف من أسرار اللغة، ما لا يعرفه، ولا يضر بغير قصد من يلجأ إليه طالباً نصرته، فحفظة اللغة أقدر من سواهم على فهم النص، واستنتاج الحكم. 

كما يجب على القاضي، أن يدرس علوم اللغة العربية من صرف، ونحو وبلاغة وغيرها، ليكون تصديه للحكم مصيباً، وليس هذا فحسب، بل إن المشرع الذي يصيغ القوانين، ويصدرها يجب أن يكون ملماً بكل فنون وقوانين اللغة العربية، وإلا أصاب القانون العوار، وكثرت ثغراته، ولم يُحقق الهدف المبتغى من إصداره. 

فالجمع بين اللغة العربية بكل قوانينها، وفنونها والمضمون القانوني يُحقق أهدافاً، لا يمكن أن يحققها التركيز على دراسة القانون وحده، فإذا ما أجاد القانوني اللغة العربية أصبحت لغة القانون ذاتها أداة لتعلم قوانين اللغة، ولعل ذلك يظهر في بعض رسائل الحقوق على مر التاريخ الإسلامي، ونصوص أحكام بعض القضاة، ومرافعات جهابذة المحامين، والتي تمثل نماذج فريدة للغة القانون وقوانين اللغة العربية، الأمر الذي يجعلها مادة قيمة، يجب أن تُدّرس في كليات القانون. 

ولاريب أن طالب القانون، عندما يجد المعلومة القانونية والقاعدة اللغوية مجتمعتين في نص واحد مع اقتناعه التام، بأن القاعدة اللغوية تخدم المعلومة القانونية، سيُقبل على دراسة اللغة العربية، ويجتهد في إجادة كل فنونها أو جلها، ليفهم من خلالها المعلومة القانونية. 

وقد جرى العمل في كليات القانون في الجامعات العربية، على أن اللغة العربية ليست من ضمن المقررات التي تُدرس فيها، إلا أن بعض الجامعات العربية تجعل دراسة اللغة العربية متطلباً جامعياً اختيارياً، أو إجبارياً حسب الخطط الدراسية المطبقة في كل جامعة، يدرسه جميع طلاب الجامعة خلال فصل دراسي أو فصلين على الأكثر. 

ومما لا شك فيه، أن ما يدرسه طالب القانون من قواعد وفنون اللغة العربية خلال فصل دراسي أو فصلين، لا يكفي لتشكيل ثقافته اللغوية، التي هي سلاحه لإجادة الفنون القانونية، ليكون بعد تخرجه فارساً من فرسان القانون، قادراً على ترسيخ قيم الحق، والعدالة، والمساواة. 

لذلك نقترح أن يتم تدريس اللغة العربية "قوانينها وفنونها" في كل مراحل الدراسة الأولية في كليات القانون، وأن تكون الدراسة اللغوية أكثر شمولاً وتعمقاً خلال مرحلة الدراسات العليا. 

وأن يتم تدريس أسلوب المرافعات، وفنون الصياغة القانونية من قبل أساتذة اللغة العربية جنباً إلى جنبا مع أساتذة قانون المرافعات، وأن تتألف لجان الإشراف على مشاريع التخرج، وأطروحات الدراسات العليا من أستاذ في القانون، وأستاذ في اللغة العربية. 

وأخيراً، نؤكد على أن وجود أساتذة متخصصين في اللغة العربية وفنونها داخل كليات القانون لن يكون مفيداً لطلاب القانون فحسب، بل سيكون مفيداً أيضاً لأساتذة القانون أنفسهم، الذين لا يستطيعون مهما برعوا في قوانين وفنون اللغة، أن يستغنوا تماماً عن علم، ومشورة أهل اللغة، فكما يقول المثل القديم" أهل مكة أدرى بشعابها"، وما أكثر شعاب لغتنا الحبيبة. 
 

الشارقة 24