روعة اللغة العربية - 4

أ. د. يحيى صالح دحامي

 

تواصلاً مع ما تم سرده سابقاً فيما تناوله الشاعر النبيل وأمير الصعاليك عروة بن الورد في وصفه لأنواع وأصناف الصعاليك نستذكر استعراضه لنوع من الصعاليك الذي يمقته عروة ويمقته كل إنسان، إنه ذلك الصعلوك الذي هو أقرب إلى اللص، وسلوكياته تشير إلى الوضاعة من الأعمال حتى وإن كان غنياَ، إنه ذلك الذي لا يرتبط بالنبل والشهامة والكرم والإيثار بل هو نقيض كل ذلك، ونستذكر صوراً لغوية جمالية إبداعية استخدمها الشاعر ومن ذلك ’الجملةَ الدُّعائية‘ في بداية حواره الشعري عن ذلك الصعلوك السيء ليبيِّن لمن يسمعه، من جماعته، لتكون حجة عليهم، ومثل ذلك لأي فرد من أفراد مجتمعة ليؤكد لهم مدى احتقاره ورفضه لمن ينأى بنفسه عن معالي الأمور والتوجيهات الأخلاقية ويرضى أن يحيى عالةً على الأخرين.

ولا يجدر بنا إهمال التصويرُ الواقعيُّ واختيار المشاهد باهتمام والذي يصور سجية وسمةٌ صريحة في أبياته تلك، فالشاعرُ لم يلجأ إلى التصويرِ والتشبيهِ التقريري فقط لذلك الصعلوك ووَسمه بالأنانية وحب الذات والكسل والجشع وذلة النفس وخزيها وهوانها وإنما أتى بالمشاهد والوقائع التي تُجسِّد وتمثّل هذه الصفات من خلال عرض ما يفعله في أجزاء اليومٍ الكامل أبتدأ من بداية الليل وفي وقت العِشاء وحتى الصباح وانتهاءً بالضحى، يذكر لنا الناقد أحمد أمين في كتابه ’فيض الخاطر‘ الجزء الخميس (2011)، أن عروة، ومن تحت ريادته الصعاليك، كانوا مغامرين شجعانا لا يبالون بالمخاطر والصعوبات والأهوال لأنهم بذلوا حياتهم لتحقيق هدف نبيل في عميق إيمانهم وهو مسح دموع البائسين، وهم بذلك لا يهابون الموت لأنه عندهم حتمي ولا مهرب منه، فإن وَفَدَهم قابلوه بشجاعةِ وبسالةِ لا تعرف للخوف طريقا، وفي كتاب الأغاني يصف لنا أبو الفرج الأصفهاني أن أبن الورد العبسي كان في جماعته إذا أجدبوا تركوا في عريشهم المريض والكبير والضعيف فيعنى بهم ويقيم لهم مأوى  يأوون اليه فمن قوي منهم خرج معه في الغارات التي كان يقودها ويجعل للقاعدين نصيباً، ومن ذلك ندرك يقيناً أن عروة بن الورد ليس ذلك الرجل الذي يقضي كل يومه في خدمة النساء والذي يقوم بمهام دنيئة حتى يصبح منهك كالبعير المتهالك والكليل (ص 30)، بل هو النوع الاخر الذي وصفه في الأبيات التي تلي هذا. 
في الابيات التالية ننتقل إلى منحى مختلف عن سابقه لنتتبع وصف الشاعر والفارس عروة بن الورد لنفسهِ ولعموم الصعاليك ولكن أصحاب النوع الثاني – الصعاليك النبلاء، في الأبيات الأربعة التالية يبدأ الشاعر في الحديثِ عن نوعٍ مميز مما يُطلق عليه لفظ الصعلوك، معلناً أننا سنرى رجلاً يتمتع بسمات موقرة وجليلة، عروة  بن الورد كشاعر يرسمُ صوراً إبداعيةً خلابةً حيث يمكننا أن نتخيل تقسيم الصعاليك إلى لوحتين فنيتين ملامح الأولى أَفراداً يرتادون المنازل التي تذبح فيها الذبائح فيكتفون بنهش ما يُرمى لهم من بواقِ العظامِ، أما اللوحة الثانية فنرى فيها أفراداً ذو إباءٍ وبأسٍ شديدٍ فهم كالصقور الجارحة التي تنقضُ على فريستها انقضاضاَ، فوصف الصعلوك، كما يرسمه عروة، أنه المرء الذي يشعرُ بفقراءِ قومهِ، ويجدُّ في طلبِ الغنيمةِ والثروةِ لكن ليس لنفسهِ بل لعشيرتهِ من المحتاجين، ومما لا شك فيه أن التناسب بين الصورتين يرتكز على إشارات ندركها في كل صورة منهما؛ فالمقابل يُظهِرُ حسنَه أو قبحَه الضدُّ، عروة بن الورد هو ذلك الانسان النبيل الشريف الخلق فعلاً وقولاَ؛ يشدو عروة بن الورد قائلاً:
ولكنّ صعلوكا صفيحةُ وجهه كضوء شِهاب القابس المتنوِّر

في البيتِ أعلاه وما يليه يُصرّحُ عروة بن الورد أن النوع الثاني من الصعاليك هو ذلك الفرد من المجتمعِ الذي تشبه صفيحة وجهه (في إشارة إلى بشرة جلده) الضوء الساطع من نيزك مضيء، والقابِسِ هو من يرفع نبراس مِن النار، أو الذي يُوقِدها ويذكيها ويثيرها، وربما هو ذلك الذي يطلبها، يقال تنورتُ النار، أي نظرتُ إليها واستضأتُ بنورها، كل هذه الإشارات توحي إلى ماهية الصعلوك النبيل عند الشاعر والفارس ابن الورد والتي تنطبق على شخصيته كونه الذي أنار الطريق لكثير من الفقراء الصعاليك حتى أصبحوا فرساناً يُعملُ لهم اعتبار ومهابة، ولذلك تمنى الخليفة عبد الملك بن مروان أن يكون عروة بن الورد أباه وتمنى معاوية أن يصاهره، وندرك هنا القدرة اللغوية الفائقة لدى الشاعر في اختيار معانٍ عميقة ليست في متناول أي فرد، فهذا النوع (النوع الثاني) من الصعاليك حين تراه تدرك أنه مشرقُ الوجه كنور ساطع من لهب يرشد من يستضيء به، ويمكن القول أيضاً أن الشاعر يشبه وجه ذلك الصعلوك بإضاءة شهاب للرجلِ المستضيء بالنارِ والذي من خصائصه أنه لا يتذلل إذا أثّر فيه الدهر، من يتمعن معاني ومفردات هذا البيت الشعري لغوياً فسيدرك أن من صفات ذلك الصعلوك أن وجه التشابهات لا تعتمد على مجرد البهاء والضياء فقط؛ بل يستطيع أن يرتئي من خلاله ذلك التشابهَ المعنويَّ؛ فرفقاء هذا الرجل يستضيئون برأيه مثل أفعاله ويستدلون بخطواته التي تسبقهم وتبينَ لهم الطريق عند العزمِ على الإغارة كما يفعل المستضيء بالقبس.

مُطِلاًّ على أعدائه يزجُرونه بساحَتهم زَجرَ المنيح المشَهَّر

في هذا البيت نفهم من الشاعر أن من خصائص النوع الثاني من الصعاليك أنه ذلك الشخص الذي يصب الدم على خصومه في النزال دون خوف فهو إن قابل عدوه فإن عدوه لا شك مردود على عقبيه أو مقتولا مسفوح الدماء، يستهل عروة تصويره البلاغي الجميل مستخدماً عبارات عميقة ومعبرة وخالدة عن أنواع الصعاليك في شكل مقارنة حيث يقابل الصورةَ الأولى للصعلوك الذي يعيش عالةً على غيره بصورةِ النقيض، إنه ذلك الصعلوك الذي يخاطر بحياته من أجلِ قبيلته وقومه وعلى وجه الخصوص الضعفاء منهم، كلمة ’مطلاً‘ تعني أن هذا الصعلوك مشرفاً على أعدائه، يُغيرُ عليهم على حينِ غفلةِ منهم ومتى ما أدركوا ذلك فإنهم يحاولون زجره ولكن ليس بالمواجهة والنزال بل يصيحون في وجهه ليبعدوه، ومن الجائز القول أن ادراكنا لمعاني البيت الشعري تشير إلى أن سمات وجوههم يبدو عليها الخوف والهلع، ويمكن القول أيضاً أن استخدام الاسم ’مطلًّاً‘ يدل على الإصرار والعزم والهمة والثبات لدى الفارس ابن الورد، فهو لا يطل ثم يرجع أو يتردد لكنه ثابت على إطلالته عليهم، أما مصطلح ’بساحتهم‘ فندرك أن الشاعر لعله يريد أن يرينا صورة بطولية  لذلك الصعلوك  حيث أنه  يغيرُ على أعدائه في ديارهم لكنهم لم يجرُؤُوا على مواجهته، وغاية ما يقومون به هو أنهم يزجرونه بألسنتهم، بل من المحتمل أنهم يبتعدون عن باحتهم توجساً منه.
وهناك صورة أخرى يمكن الإشارة إلى أن هذا الصعلوك الوضيء الوجه، الذي يبذل مجهوده ويبتذل روحه في اِلتماس غناه، ويقصر مسعاه على ما يفضي به عذره فيطل على خصومه غازايً ومغيراً، والصورة هنا تتجلى في أن مَن تم الإغارة عليهم يزجرونه تارة بعد أخرى، ويكر عليهم وقتاً بعد وقتٍ، ومهما يُزجَرُ وَيُنهَرُ هذا الغازي في خروجه فإنه يرد ويرجع إلى غاراته وغزواته غير آبه بما سيواجهُ، و’المنيحِ‘ تشيرُ إلى قدحٍ أو سهمٍ من سهامِ الميسر الذي ليس له نصيب، والإشارة هنا إلى أنهم يزجرون أولئك الصعاليك كما يُزجَرُ ذلك السهم عندما يُلتَقط بغض النظر عن النطاق الذي قد يذهبون إليه ويتبعونهم في زجرهم ومحاولة طردهم، ومع ذلك فإنهم غير آمنين من إعادة هجمات الصعاليك التي قد يشنها في أي وقت، حتى لو أحس المغارُ عليهم أن الصعاليك كانوا بعيدين عنهم، فهم يعرفون قوة وشدة وبأس الصعاليك، وباسترجاع المقارنة بين النوعين من الصعاليك الذي صوره لنا الشاعر والفارس النبيل عروة بن الورد نعلمُ أنه في الوقت الذي يكون فيه الصعلوك الأول نائماً أو خاملاً أو طاعماً، نجد هذا الشجاعُ الهجامُ مشرفًا ومطلاً على أعدائه.

إذا بعدوا لا يأمنون اقترابَه تَشوُّفَ أهلِ الغائب المتنظَّرِ

يعتمدُ عروة بن الورد في هذه الاسطر على التشبيهِ اللغوي والتصوير الفني في توضيح المناظر التي قد لا يستوعِبُها السامع لأنه لم يرَها، فيماثلها بصورٍ تكرارية في الحياة العادية، فمثلاً زجرُ الأعداء له، كما أدركنا في البيت الأول، يماثل زجرَ أصحاب الميسر سهم القدح، ومنظرُهم وهم يتشوفون ويراقبون  للجهة التي يهابون قدومَه منها مثلُ مشهد ترقب أهل الغائب الذي قرب إيابه، وهو في الوصف الثاني يعول على المظهر الحسيِّ، وإن كان التباين النفسيُّ بين الأمرين مختلفًا كلياً، الأمر الذي يضعف الوصف، بيد أن الفقير المتألق الوجه، الذي يسعى في غناه فيطل على خصومه غازايً، يذكر لنا التبريزي في كتابه شرح ديوان الحماسة  أن الأيسار كانوا يقفون عند المُفيض (ضارب القدح)، فيتكلم كل واحد منهم، كأنه يخاطب قدحه، فيأمره بالفوز، وينهره من أن يخيب، فذلك زجره (ص 229، وينظر أيضاً خزانة الادب للبغدادي الجزء العاشر ص 16)، ومعنى قوله ’إذا بعدوا لا يأمنون اقترابَه تَشوُّفَ أهلِ الغائب المتنظَّرِ‘ أي أن من يغير عليهم يظلون قلقين متربصين لا يأمنون رجوعه حتى وإن بعدوا، بل يتشوفون إغارته تشوف الغائب المنتظر، إن بعد وطال غيابه عن أعدائه فإنهم  لا يأمنون من أن يغزوهم مراراً فهم لا يأمنون عودته ويستمرون في ترصد رجوعه، فهذا الصعلوك لا يقعد أو يتكاسل عن طلب الغنى والإغارة على الأعداء والنيل منهم، جدير الإشارة إلى الابداع اللغوي عند عروة بن الورد حيث أننا في البيت الثالث أعلاه نجد استخدام رائع  للمعاني المتقابلة والمتضادة ويجعلها تَنساب بسلاسةِ اللفظ وعمق المعنى ومثال ذلك قوله (بعدوا – اقترابه) ومثل ذلك (تَشوُّفَ – الغائب – المتنظَّرِ) وقد يمر بالذهن أن المعنى للوهلة الأولى عكسي في قوله ’تَشوُّفَ‘ حيث أن من يتشوف هو من ينظر إلى شيء موجود أو حاضر ولكن شاعرنا يأخذنا ليس لمجرد استخدام العين المجردة في الرؤية بل يريد إيصال إحساس أقوى وأعمق وهو الشعور بالترقب والتوجس والانتظار بدلاً من مجرد النظر لأنه ينتظر كيان ما غائب.

فذلك إن يلق المنية يَلقهَا حَميداً وإن يستغنِ يوماً فأجدرِ 

في البيت الرابع أعلاه نجد هذا الصعلوك الشجاع النبيل إن أخذته المنية فيجزيه أنه خلّد ذكره بين ناسه وعشيرته الذين يحمدونه ويشكرون جهده وصنيعه في خدمة الضعفاء منهم، وإن أصبح غنيّاً فهو حري بالغنى حيث أنه لا ولن يبخل على أهله بما ينالُ ويحوزُ من غنى، ويجوز القول أن ذلك الصعلوك المتميز بصفاته  التي أعلت ورفعت  منازله إن يلق المنية، أي الموت، يلقها في حال كونه محمودا، ولكونه أعلم نفسه عذرها في البعد عن كل دنية أو عمل مشين، وإذا كان الغنى يوماً فهو أجدر به لأنه شمّر عن ساعده وأطلق لساقه عنانها وجرد حسام المنية في وجه من ينازله وكل ذلك من أجل طلب الغنى، وهو غير راكن إلى استرخاء ولا مخلد إلى دعَة، ومما لا شك فيه أن الغرض الجوهري للنصِّ هو حرصُ الشاعرُ على إيضاحِ حقيقةٍ أرادها وعاشها والتي تتمثل في أن الصعلوك هو إنسان له ملكات يستطيع من خلالها أن يحول كل ما هو ممقوت إلى مرغوب ومطلوب، ومن ثَم جاء هنا بالصورة المتمة لحديثه عن ذلك الصعلوك بتصوره في كِلاَ اللوحتين، في حالة موته واستقلابا في حالة بقائه، ليُكرِّر خاطرة الخلود بعد الموت من خلال ديمومة الذِّكر والإشادة الحسنة حيث أنه في حياته حقيقٌ بالثراء الذي تعبَ وكلَ من أجله، وهو مثل ذلك لم يبخَلْ بما غنمه واكتسبه على قومه من ذوي الحاجة، إنه ذلك الصعلوك الذي إن أدركه الأجل قبل استحصال الأمل، لقيَ أجله محموداً، إذ أنه قد سعى وفعل ما وجب عليه وأقام عذره في مطلبه بالسعي في ذلك، وإن نال الغني بعد مسعاه في يومه ذاك فهو المستحق لذلك، بالرغم من أن الشاعر الفارس ابن الورد العبسي عاش في فترة ما قبل الإسلام إلا أنه في هذا البيت يصور إحدى اجمل وارقى الصور التي تصف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي لا ينالها إلا المؤمن، فالبيت يشير إلى رضى هذا الفارس الصعلوك بالخير والغيمة فهو بذلك راضٍ أو ينال المنية أو يلقى حتفه وذلك ضراء وهو راضٍ، وتبيان ذلك في حديث الرسول محمد صلى الله عليه وسلم الذي يقول (عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ)، ينظر في صحيح مسلم كِتَاب الزُّهْدِ وَالرَّقَائِقِ، بَاب الْمُؤْمِنُ أَمْرُهُ كُلُّهُ خَيْرٌ".