لماذا تراجعت اللغة العربية في افريقيا بعدما كانت لغة نصف قبائلها؟

 

تبدو استعادة مسارات الحضور الثقافي العربي والإسلامي بأفريقيا أشبه برحلة طويلة لموكب ضخم لا يلبث أن ينزل مسافروه في محطات كثيرة: الاستعمار الأوروبي وعزوف العالم العربي عن تمتين الحوار وسياقات الحاضر وإكراهاته. وتبدو الرحلة أيضا حافلة بلحظات التألق القائمة على الحضور الاستثنائي والمتميز، خلال لحظات طويلة، لمعالم الثقافة العربية، وبلحظات تراجع كل ذلك، ضدا على ما يجمع العالم العربي وأفريقيا من تفاصيل عديدة مشتركة: التاريخ والجغرافيا والاندماج الاجتماعي والثقافي والفني. هنا قراءة لجانب من الرحلة التي تناوب على توجيه مسارها العديدون، العرب والمسلمون أحيانا، والأطراف الاستعمارية أحيانا أخرى والصمت العربي ثارات أيضا.

كان وصول الإسلام إلى أفريقيا معبرا لسفر اللغة العربية إلى المنطقة، مكرسا بذلك ظلال وجودها التي سبقت دخوله، سواء اعتبارا لما يجمعها ببعض اللغات الأفريقية كالأمهرية، أو من خلال التأثير القديم المرتبط بحركة التبادل التجاري. وشكل دخول اللغة العربية مع الإسلام مصدر تحول ثقافي ولغوي حقيقي داخل مشهد لساني حافل باللغات واللهجات التي تصل إلى أكثر من ألف لغة متداولة، وهو تحول تهم امتداداته، كما يشير إلى ذلك الباحث خليل النحوي، ثلاث تجليات أساسية، ارتبطت باستعمال اللغة العربية نفسها في عدد من المناطق، وبالتأثير الذي مارسته العربية على مستوى عدد من اللغات الأفريقية، ثم بتوظيف الحرف العربي لكتابة لغات أفريقية.

وبذلك، أصبحت اللغة العربية خلال فترات معينة، حسب توماس أرلوند، لغة للتداول بين قبائل نصف القارة الأفريقية. وهو الأمر الذي يعكسه اعتماد اللغة العربية كلغة رسمية أو لغة للتداول، إلى جانب لغات أخرى أحيانا، في مجموعة من الدول الأفريقية، من بينها الصومال والجيبوتي وإثيوبيا وإريتريا.

ولم تكن اللغة العربية لغة للتداول العملي واليومي فقط، بل كانت أيضا لغة للتأليف في مختلف المجالات، وهو الأمر الذي يعكسه بشكل جلي إسهام عدد من العلماء الأفارقة في التأليف باللغة العربية، من بينهم خصوصا الشيخ إبراهيم نياس الكولخي والشيخ عمر الفوتي. ولم ينحصر الإنتاج في المجالات الدينية فقط، بل شمل أيضا الكتابة الأدبية، حيث شكلت العربية إحدى اللغات الرئيسة التي كانت مجالا لغويا للأدب الأفريقي المكتوب. وهو ما تشهد عليه الآلاف من المخطوطات التي تحتفظ بها عدد من مكتبات أفريقيا. كما هو الحال بالنسبة لرصيد مخطوطات تمبوكتو الشهيرة.

شكلت ملامح الوضع السابقة علامات مضيئة داخل سيرورة العلاقات بين أفريقيا والعالم العربي. غير أن كثيرا من العلامات تلك ستنطفئ مع انبثاق سياق جديد من مؤشراته الحضور الاستعماري بأفريقيا. وكان من نتائج ذلك عمل قوى الاستعمار على تغيير الخارطة الثقافية والسياسية والدينية والاجتماعية لأفريقيا بشكل يلائم سياستها القائمة على محو هوية المنطقة وثقافتها. واعتمدت في ذلك، على سبيل المثال، على خلق بنية تعليمية جديدة تنسجم مع سياستها، وتقوم أساسا على محاربة سواء التعليم الإسلامي والعربي أو الأفريقي. ويندرج في هذا السياق إصدار السلطة الاستعمارية الفرنسية بالسينغال لقرار، سنة 1875، يفرض الحصول على تصريح قبل افتتاح أي مدرسة عربية.

ولم يكن الاستعمار العامل الوحيد وراء تذبذب الحضور الثقافي العربي والإسلامي بأفريقيا، بل ساهم في ذلك أيضا ابتعاد العالم العربي والإسلامي نفسه عن المنطقة وعزوفه عن تكريس وتمتين وشائج الحوار وأفق التضامن مع بلدانها. كما أن كثيرا من العناصر التي كانت عوامل لتقوية الحضور الإسلامي بأفريقيا تحولت، مع تغير السياقات والشروط، إلى عوامل مضادة لهذا الحضور. فإذا كانت الطرق الصوفية، على سبيل المثال، طرفا فاعلا، خلال اللحظات السابقة، على مستوى نشر الإسلام وضمان وجود نظام تعليمي مساعد، فقد تحولت، حسب عبدالرحمن السميط، إلى أطراف متصارعة في ما بينها حينا، أو مساندة للاستعمار أو صامتة عليه أحيانا أخرى.

وكان تزامن مختلف العوامل السابقة وراء إكراهات انعكست بشكل سلبي، من جهة على بنية الثقافة الأفريقية نفسها ومكوناتها اللغوية والفكرية والإبداعية، ومن جهة أخرى على علاقة هذه الثقافة مع مثيلتها بالعالم العربي، بشكل صار معه الصمت والغربة والبعد عناوين جديدة لمرحلة جديدة.

وبالتزامن مع ذلك، عرف حضور اللغة العربية بأفريقيا اندحارا كبيرا وسط مشهد لغوي حافل بأكثر من ألف لغة متداولة، وحامل لأكثر من سؤال، من علامته التوزع اللغوي داخل البلد الواحد. ويعكس ذلك، حسب سيسيل كانو، الجانب المركب والحافل بكثير من الإشكالات لسياق يجعل حياة اللغة العربية بأفريقيا عسيرة. كما أنها تعرف تراجعا حتى في المناطق التي شكلت داخلها، خلال لحظات سابقة، لغة أساسية. وهو الأمر الذي ينطبق مثلا على كينيا التي تخلت عن العربية بعد أن كانت لغتها الرسمية إلى حدود ستينات القرن الماضي.

وتهم امتدادات هذا الوضع حضور الثقافة العربية وأشكال إنتاجاتها الفكرية والأدبية الإبداعية. فخارج الكتابات القديمة، يبدو مشهد الكتابة الأدبية بأفريقيا غير الناطقة بالعربية، على سبيل المثال، خاليا من أي اسم أدبي كبير. فالأسماء التي نسجت التراكم الأدبي الحقيقي خلال القرن العشرين، أو قبله، يكتب قليل منها باللغات الأفريقية، أما أشهرها فيكتب باللغات الأجنبية، وغالبا بلغات مستعمري بلدانها السابقين. دون أن ينفي ذلك بالضرورة وطنية هذه الأسماء.

ويهم الأمر عددا من الأدباء الذين نسجوا الملامح الأولى والكبرى للأدب الأفريقي الجديد، ابتداء من الكاتب المنحدر من جنوب أفريقيا طوماس مفولو، الذي يعتبر أول روائي أفريقي يصل إلى القراء في العالم، إلى الروائي الغيني كامرا لاي المعرف بنصه الشهير “الطفل الأسود”، إلى الشاعر السينغالي ليوبورد سيدار سنغور، إلى الكاتب النيجري وول سوينكا الحائز على جائزة نوبل، إلى الكاتب الكونغولي بولومبا أنطوان-روجير، الذي وجد نفسه مجبرا على الكتابة تحت اسمه الجديد بولومبا لوكولي، وذلك بقرار من الدكتاتور موبوتو، الذي نص سنة 1972 على تغيير أسماء جميع الزايريين بأسماء أفريقية “أصيلة”!

ويبدو تراجع حضور الثقافة العربية بأفريقيا إشكالا مركبا، أسهم ويسهم الجانب العربي في نسج جانب كبير من أسبابه. ويبدو مفارقا، أن يكتفي العالم العربي بمؤسستين فقط مهتمتين بأفريقيا، الأولى بالقاهرة والثانية بالرباط، في الوقت الذي ينشئ فيه الغرب العشرات من المؤسسات العلمية التي تطلق المئات من مشاريع البحث في الشأن الثقافي والديني والسياسي والاجتماعي الأفريقي.

يبقى كل ذلك جانبا من صورة أكبر لوضع أعم، تفتح استعادة مساراته أفقا أوسع لكثير من الأسئلة، حول ثقافة عاشت عصرها الذهبي بأفريقيا لتعيش، بعد تغير السياقات والظروف، غربتها هناك، بعيدا عن تاريخ عريق يحفل بكثير من التفاصيل المشتركة.
 

المجد