غُربة العربية في أرضها

أ. عبدالقادر مصطفى عبدالقادر

 

هي مخاوفٌ أبديتها منذ سنوات حول تعرُّض لغتنا العربية لمخاطر جمَّة في أرضها وموطنها، وكنتُ قد أسررت قلقي أحيانًا وأعلنته أحيانًا أخرى في معية أصدقائي وقُرَّائي حول هذه الكارثة، لكنهم أبوا المُشاطرة، مُتعللين بأنّ القرآن الكريم - الذي نزل بها - كفيل بحفظها وحمايتها، وهو تعليل لا بأس به في جانبه الشكلي، أما في جانبه الموضوعي والعملي فإنَّ الأمر يحتاج إلى بعض التريث لشرح جوانب القضية بعيدًا عن العاطفة المتأججة؛ لنعرف - بلا مجاملة ولا مواربة - موضع أقدمنا ونحن نتحدث عن مفتاح هويتنا.

لا أنكر بداية؛ أنّ اللغة محفوظة بضمان حفظ الكتاب الكريم الذي نزل بها من قبل ربّ العالمين؛ وهو القرآن الكريم، ولكني لا أقصد الحرف المنشور في الكتاب المسطور، فهو هو لن يُغيَّر أو يتغير إن شاء الله، وإنما أعني الحرف الجاري والمتداول على ألسنة العرب في منتدياتهم وحواراتهم ومُناظراتهم، والمخطوط والمنقوش في كتاباتهم ورسائلهم ومدوناتهم، إذ يعاني الحرف عندهم من تراجع وركاكة على مستوى النطق والكتابة، ناهيك عما يعتريه من أخطاءٍ في الصياغة والكتابة، فإذا كان ذلك يقع من مُثقفين وكُتَّاب ومفكرين؛ فإن الطآمة تكون أعظم وأخطر.

كشفتْ الفضائيات المُتناثرة على مُتون الأقمار الصناعية، والمنتديات الإجتماعية المبثوثة على الشبكة العنكبوتية مثل فيسبوك وتوتير، وكثير من مواقع إلكترونية؛ حجم المأساة بما تنشره من مشاركاتٍ دون مُراجعة لغوية عند كثير من النُّخب وأهل التخصص والرأي والفكر والكلمة، أو هكذا يقولون، إذ تبين بالصوت والصورة أنَّ لغتنا الجميلة تعاني شللًا رباعيًا على ألسنة وأسنة أقلام هؤلاء، حتى بدت لغة الضاد ذات الثراء اللفظي عاجزة عن الإفصاح عن شموخها وعظمتها وخلودها في حضرتهم، وهنا يكمن خطر شيوع هذا المستوى الهزيل من التعاطي مع مفردات اللغة العربية على جيل جديد يشاهد ويقرأ ويقتدي.

في مصر كمثال؛ أطلَّت علينا من النوافذ الإعلامية والمواقع الإلكترونية - التي انفجرت عقب ثورة 25 يناير تحديدًا - ألسنة لا تعرف كيف تنطق الكلمة العربية، وأقلام لا تعرف كيف تصوغها أو تكتبها، فتجلت مهازل في وحدات بناء الوعي والإنتماء للهوية واللغة، دون أن نسمع صوتًا يشق هذا الغبار المُطبق ليدافع عما تبقى من ملامح لغتنا؛ قبل أن ترحل عن وعي الناس ومن وجدانهم؛ لتحل محلها لغة ابتدعها بعض «الأراجوزات» في وسائل الإعلام؛ إما عن جهل، وإما عن عمد، لتكون النتيجة واحدة وهي أن شيئاً يُحاك ليُضرب رباط اللغة كذلك في مقتل.

كذلك فإنّ شيئًا مماثلًا يُفعل ومؤسسات التعليم – في ربوع وطننا العربي - تتعامل مع اللغة العربية على أنها مادة كالرياضيات، فتسجنها في معاني المفردات والكنايات وأعراب ما فوق الخط، لتظل داخل قوالب نمطية صمّاء؛ لا تنتج خيالًا لغويًا، ولا ثراءً فكريًا، ولا فصاحة في النطق، بل إنّ مُخرجات الكليات المتخصصة في اللغة العربية ذاتها تُعاني هُزالًا في تلك المهارات اللغوية، التي تجلت على ألسنة العرب - قديمًا - دون تعليم!.

أرى في النهاية كعربي أنه يمكن النهوض باللغة العربية من وهدتها بالعودة إلى القرآن الكريم الذي حمل حرفها في بيان مانع وماتع، لنستعمل الكنز بدلًا من أن نحفظه في الأدراج وفوق الأرفف، ولتكن قراءة القرآن على نحو صحيح مُسوغًا رئيسًا للنجاح في اللغة العربية في المدارس، وكذلك للقبول في كليات اللغة العربية، وشرطًا أساسيًا في تعيين الصحفيين والمذيعين وكل متعامل مع حروف اللغة في وسائل الإعلام؛ منطوقة أو مكتوبة، تقليدية أو إلكترونية، ولا أعتقد أن ذلك يتطلب خططًا «خمسية» ولا غيرها من خطط تميت الأفكار قبل أن تولد.