الهمزة على الهامش

أ. عبد الحكيم برنوص

 

تجري في أوقات محددة من السنة إقصائيات الإملاء الفرنسي على امتداد التراب الوطني، مباريات يقف من ورائها جيش عرمرم من الفرنسيين والفرانكفونيين ومحبي لغة موليير من آباء وتلاميذ وأوصياء، ليُفرزوا أبطال الخط وحفظة قواميس " لو روبير" و " لاروس"...

وحتى نكون مُنصفين وموضوعيين، فإننا نثمن هذه الأشكال من الاحتفاء اللغوي، غير أننا لا نثمن أبدا الإهمال والجفاء و التجافي الذي يتعرض له الحرف العربي، فلا أحد يهمه ولا حتى يفكر في كتابة التاء أو أشكال كتابة الهمزة، والحروف الأخرى كيف تتغير أشكالها بتغير مواقعها. ( نستنكر هذا الاكتساح العارم للّافتات المكتوبة بغير ما هو مقرر في الدستور)
اكتبوا همزتكم على الياء أو على الحائط  أو لا تكتبوها ، فلن يُغير ذلك في الأمر شيئا، اِربطوا تاءكم أو ابسطوها فلن نلقي لذاك بالا. 
من الصعب تفهم الطريقة التي كان أحد الآباء يعد بها ابنه لهذا النزال الإملائي، كان الرجل يقضي الساعات الطوال وهو يملي على ابنه صفحات لا تعد من قواميس الفرنسية، ما يربو على الألف كلمة يوميا، يُملل عليه، فيكتب اللغوي الصغير، أو ينطق عندما تخور عضلات أصابعه البضة. وعندما ضاع الولد في غمار السباق ، كاد الأب " المولييريّ" أن يصاب بانهيار لغوي، يفقد بسببه القدرة على الكلام .
مستوى الغالب من أبنائنا في كتابة الحرف العربي مستوى مهلهل ، وكتاباتهم هي إلى الخربشات والطلاسم أقرب منها إلى الكتابة العربية كما ينبغي أن تُكتب. في مؤسسات التربية والتكوين، يتم التغاضي عن الخط والكتابة والإملاء وتوابعهم، وذلك استصغارا للمادة أو إهمالا لها ، فلا يلقى إلى الأمر بال، رغم أن ميثاق  التقويم لا يعدو أن ينطبع خطوطا على الصفحات البيضاء، واسألوا المصححين وهم يمتعضون جراء خط لا يمكن فك طلاسمه إلا من لدن علماء الأثار. 
والنتيجة هذه الخطوط المهترئة التي يكتب بها  كثير من التلاميذ وبعض الأساتذة رعاهم الله، وحتى المَرْقون منها تعتريه هنّات فادحة في وضع الهمزة أو اللام أو الكاف نهاية الكلم مثلا. ( يُسر أحد المتحسرين أن الهمزة غلبته غلبا، وكانت سببا في مغادرته النزال، والعتب كل العتب على الذين لم يُيسروا له المادة التي أحبها وما يزال).
في بلدان الشرق الأقصى ( الصين واليابان...) يحيطون خطوطهم الصاعدة الهابطة  ـ والتي نراها نحن غامضة متشابكة ـ بقداسة لا متناهية، ويحضرون لذلك الطقوس والمراسيم وكأنهم يتعبدون. في بلد كاليابان ـ مثلا ـ يدفعون إلى العالمين ما يحتاجونه من منتوجات ـ كلٌ حسب لغته ـ ويحتفظون لأنفسهم بِلُغتهم وحروفهم، لا يفرطون في ذلك مثقال ذرة، فالهوية عندهم لا تتجزأ، إما تُؤخذ كاملة أو تترك كاملة.
جاءت التقانة وربح الناس بعضا من شيء مقدس، ربحنا الوقت وخسرنا شيئا ثمينا اسمه الإبداع، وخسرنا معه رائحة الورق والحبر والقلم. في البدء كان الخط، وتلاه الرقن ، فذهب بهما النقر، وها هو اللمس يعصف بالكل، والقادم من وراء البحر لا يبشر بالخير.
مع الحضور الجارف للتكنولوجيا، بدأ الأنسان يفقد شيئا فشيئا صفة الكائن الوحيد القادر على الكتابة، الصفة التي بفضلها دشن مرحلة التاريخ، بعدة أن ظل لعصور طويلة يعيش خارج التاريخ. بعد أن كان الإنسان كائنا شفويا يحكي الحكايات وينام جنب موقد النار، يلتفت مرة مرة ليخط ويرسم خربشات محاولا الكتابة على جدران الكهف.