اللغة الأم

د. ناطق محمد جواد النعيمي

 

قال الله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) فاللغة العربية هي لغة الأم للبشر كلهم ,و(لعلكم تعقلون..)أي يخاطب الله تعالى البشر كلهم لأن القرآن أنزل للناس كافة وليس للعرب خاصة، فهي لغة أبيهم آدم، حيث لم تكن اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم صدفة أو بدون قصد، بل على العكس كان ذلك مقصوداً من الله تعالى، فقد قالوا في التفسير (ابن كثير): (في قوله تعالى {إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون}، وذلك لأنه لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس،

فلهذا أنزل أشرف الكتب، بأشرف اللغات، على أشرف الرسل، بسفارة أشرف الملائكة، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض، وابتدئ إنزاله في أشرف شهور السنة وهو (رمضان) فكمل من كل الوجوه) أ.هـ فقد ثبت في تراثنا الإسلامي أنها لغة أهل الجنة ولغة الملائكة ولغة يوم الحساب ولغة الله مع خلقه كلهم يوم القيامة حتى _ وإن كانوا لا يتكلمون العربية في حياتهم الدنيا_ أما كيف يكون ذلك فعلمه عند الله الذي أنطق كل شيء حتى أنه سينطق الجوارح فتشهد على أصحابها بما كسبت في حياتهم الدنيوية وباللغة العربية نفسها ،وقد قال الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا..)

والشهادة بديهيا تكون بلغة الشاهد وهي العربية , فإذا علمنا ذلك بدايةً سنعلم السبب الحقيقي في كون القرآن الكريم نزل باللغة العربية ، فنحن نعلم تماماً أن آدم عليه السلام أبو البشرية كلها قد خلقه الله في الجنة ثم أنزله إلى الأرض بعدها ، وقد كانت لغة آدم مع الله تعالى هي اللغة العربية فهو من ساكني الجزيرة العربية الأولين حيث كانت الجزيرة العربية من أجمل بقاع الأرض (جنات وأنهار) حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تقومُ الساعةُ حتى … تعودَ أرضُ العربِ مُروجًا وأنهارًا) رواه مسلم،

لذلك فإن اللغة العربية هي لغة مقدسة موقوفة من السماء علَمها الله تعالى لأبو البشر آدم, فهي غير مكتسبة أي لم يتعلمها إكتساباً من تجربته في النطق كما يتعلم الأطفال من أبويهم اللغة والكلام، كما أننا نستنتج أن آدم عليه سلام كان عربياً لغوياً إن صح التعبير، لذا فإن جميع الأجناس والأقوام الذين هم من نسل آدم أصلهم عرباً إن شاءوا وإن أبوا ذلك، وقد تبلبل لسانهم عبر الأزمان إلى لغات وألسنة شتى يتعصبون لها ناسين هذه الحقيقة الغائبة عن أذهانهم، وبالأحرى بهم حبهم لهذه اللغة الجميلة والاعتزاز بها، بل أن الجميع من البشر كانوا قد تحدثوا بها مع ربهم في المحادثة التي ذكرها الله تعالى في قرآنه العزيز في عالم الذر، فقد كانت بداهةً باللغة العربية طبعاً وذلك بقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ. الأعراف/172

فاللغة العربية إذن هي لغة الفطرة التي فطرها الله لعباده وهي لغة القاسم المشترك العام بين البشر إلى يوم القيامة ، وقد جعل الله كل كتبه المنزّلة على أنبيائه ورسله قبل الإسلام خاصة بلغة أقوامهم سابقاً إلا لغة القرآن جعلها عربيةً لكل الأقوام والأجناس والعالمين عامةً، فهي لغة أبيهم آدم الذي تجتمع كل البشرية عنده ، وجعل الله رسوله محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين لكل البشر أجمعين، بل للبشر والجن أجمعين وبلغة الأم وهي اللغة العربية .

وقد جاء بالأثر: (جاء قيس بن مطاطية _العربي_ إلى حلقة فيها سلمان الفارسي وصهيب الرومي و بلال الحبشي , فقال: هذا الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل فما بال هذا ? فقام إليه معاذ بن جبل فأخذ بتلبيبه, ثم أتى به النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بمقالته, فقام النبي صلى الله عليه وسلم قائما يجر ردائه حتى دخل المسجد ثم نودي: أن الصلاة جامعة, و قال: (يا أيها الناس إن الرب واحد, و الأب واحد, و ليست العربية أحدكم من أب ولا أم, و إنما هي اللسان, فمن تكلم بالعربية فهو عربي) فقام معاذ بن جبل وهو آخذ بتلبيبه, قال: فما تأمرنا بهذا المنافق يا رسول الله ? قال: دعه إلى النار, فكان قيس ممن ارتد في الردة, فقتل مرتدا والعياذ بالله) رواه بن عساكر…

قال عنه علماءنا من السلف الصالح عن هذا الحديث (ضعيف) (ولكن معناه ليس ببعيد, بل هو صحيح من بعض الوجوه), وقد جعل الله آخر كتاب منزل القرآن الكريم عربيا وفضل اللغة العربية على جميع اللغات فوصفها بأنها عربية واضحة وغيرها من اللغات أعجمية لقوله تعالى:(وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ/ فصلت/44

مما تقدم نكاد نفهم عن سبب إنزال الله تعالى آخر كتاب وهو القرآن الكريم بلغة العرب، وذلك ابتداء لأن لغة العرب أحسن لغة معبرة وفصيحة ومفصلة ،حيث أعتبر الله تعالى جميع اللغات غير العربية لغات أعجمية بكماء لا تستطيع إيصال التفصيل والفصاحة والفهم للناس إلا بهذا القرآن العربي، حيث أن كلمة عربي أحد مشتقات ومصادر الفعل عرب يعرب فهو عربي أي فصيح وواضح ، ولهذا فمعنى عربي في (أأعجمي وعربي) تعني واضح أو فصيح.. كذلك في هذه الآية الكريمة: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.

قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ/الرعد/37 قالوا في (تفسير فتح القدير): “وكما أنزلنا الكتب على الرسل بلغاتهم كذلك أنزلنا عليك القرآن بلسان العرب، ونريد بالحكم ما فيه من الأحكام أو حكمة عربية مترجمة بلسان العرب، وانتصاب حكماً على الحال ” أ.هـ وحكما عربيا يعني أن الحياة كلها لا بد أن تكون عربية ، فالشرع الإسلامي وحكمه يشمل الحياة كلها، فالمسلم أياً كانت قوميته لا بد له بالقبول للانتساب للعربية والعيش بها وبأحكام الشريعة باللغة العربية المنزلة من الله تعالى حتى يكون مسلما حقاً إذن ليس تفسير الآية أنه منزل فقط بلغة العرب ليعقلوه العرب فقط ويعلمونه ولكن نزل من الله عربيا واضحا فصيحا لكل البشر،

لهذا نستنتج أن اللغة العربية هي ليست خاصة لجنس العرب فقط بل أنها لغة عامة لكل البشر المكلفين بعبادة الله تعالى الواحد الأحد رب العالمين، وبهذا نعقل لماذا أتى القرآن عربيا (لعلكم تعقلون)، وبهذا تصبح اللغة العربية وتعلمها جزء من أصول الدين لكل مسلم عربي وغير عربي(حيث يعتبر عربي الأصل مجازاً) ويعتبر تعلمها لتعلم الدين الواجب فرض عين على كل مسلم(والله أعلم).

فإن صار المسلمون كلهم عربا نسباً وانتسابا تديناً وتقربا لله ولرسوله وأصبحوا فرقة واحدة سينصلح أمرنا وتجتمع كلمتنا ونكون أمة واحدة قوية متكاتفة كما قال الله تعالى (خير أمة أخرجت للناس..) وذلك كما وصفنا في قرآنه، وبهذه الطريقة تنجبر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وتكون أمة واحدة ضد أعدائها المتكتلين عليها والذين يكيدون لها في كل مجال وحين.
 

الأمة