لغتي هويّتي

أ.د. عبد السّلام المسدّي

 

لن يندم العرب على شيء كما قد يندمون يوما على أنهم لم يلبّوا نداء لغتهم وهي تستجير بهم منذ عقود أن أدركوني، هتفت بهم همسا منذ أيام الاستعمار ثم صاحت عند انقشاع غمّته، وها هي لا تبرح تشكو وتستغيث. أمران جاءا يكثفان الوعيَ بمأزق اللغة العربية، ويدفعان ببعض النخب إلى إرسال صيحات الفزع: ظاهرة الكونية الثقافية المتسترة بعباءة العولمة وامتداداتها، وظاهرة التهمة الجاهزة التي أمعنت في الإلهاء إلى حدّ الإضلال، فماهت الإسلام بالإرهاب، فانسحبت التهمة على اللغة التي حملت أمانة النص؛ حتى لكأن من الألسنة البشرية ما هو حامل لبذور العنف ومنها ما هو منها بَراءٌ.

تعدّدت النداءات فازدهرت أدبيات جمّة لم تَلق من قاموس اللغة شحّا، ولا من تلوين مقاصدها تبرّما: وها هو فيض غزير يصوّر مشهدا ثرّا من مشاهد الفكر العربي، فيه يتولد المعنى من المعنى وتتكاثر مقاصد الألفاظ ومردّها واحدٌ أو كالواحد، كأنما هي الغصة في حناجر الدّعَاة يَسكنها هاجسُ الخوف أن تسمَعَها آذان أولي الأمر ولا تصغي إليها أفئدتهم. إنه المأزق اللغويّ وقد سَمَا إلى سَنمه الأعلى. إنه لا مجال أمام العرب اليوم للانخراط بكفاءة واقتدار في المنظومة الإنسانية بكل أبعادها إلا بجبهة ثقافية عتيدة. ولا ثقافة بغير هوية حضارية. ولا هوية بغير إنتاج فكري. ولا فكر بغير مؤسّسات علمية متينة. ولا معرفة ولا تواصل ولا تأثير إلا بلغة قومية تضرب جذورها في التاريخ، وتشارف بشموخ مكين حاجة العصر وضرورات المستقبل. إنها تعاضلات بالغة التوالج بين الشأن اللغوي والشأن المعرفي والشأن الاقتصادي ولا جامع لها كلها إلا مؤسسة صناعة القرار السياسي.

من ظن أن اللغة شيء والسياسة شيء آخر فقد وضع نفسه خارج منطق التاريخ، ومن توهم أن الخيارات السياسية تستقيم في معزل عن الخيار اللغوي فقد ظلم السياسة وظلم اللغة وظلم نفسه. إن المسألة اللغوية قائمة في جوهر التصور السياسي من حيث هو إدارة حياة الناس في معاشهم وفي إنجازاتهم وفي أحلامهم، أما ما يتصل بعوالمهم الرمزية من فن وإبداع فلا معنى لشيء من كل ذلك خارج الخيار اللغوي. اللغة ملازمة للسياسة، إنها العنصر المحايث له بالفعل أو بالقوة، غير أن المنسيّ في القضية هو أن السياسة ملازمة للغة، بمعنى أن الوجود اللغوي مرهون بالفعل السياسي كإدارة وكقرار وكإنجاز، إن هذا التلازم يتجلى أحيانا فيدركه ذوو النظر المتأني، ويتخفى بتستر بالغ في أحيان كثيرة أخرى. وهو في حالات السلم أكثر انحجابا مما هو عليه في حالات الصراع.
 
إن المعضلة التي تشارف حدود الاستعصاء لا تكمن في السياسة التي قد تنحاز مع هذه اللغة على حساب تلك، وإنما تكمن في الغفلة عن قانون التلازم ذاك. وليس أخطر على الشعوب من قيادات سياسية لا تتبصّر بالنواميس الخفية التي تحكم مسار التاريخ. إن السؤال المتعلق بمصير اللغة العربية ربما كان فيما مضى ضربا من الاحتشاد الوقائي، ولكنه في هذا الزمن الجديد، ومع تفتق التاريخ عن الاستعمار الثقافي الجديد، قد غدا سؤالا راهنا، ضاغطا، حارقا، لا يحتمل التأجيل، بل أضحى من أمهات الأسئلة لأنه بثقله الرمزي يقوم مقام أركان الصراع الكلاسيكية كلها: السياسي والحربي والاقتصادي والفكري.
 
إذا كان مطردا أن ننعت اللّغة بأنّها كائن حيّ فإنّنا نتوسّل بالمجاز في التّعبير عن حقيقة يعوزنا ما به نعبّر عنها تعبيرا غير مجازيّ، وبنمط مجانس ننعت اللّغة بكونها مؤسّسة اجتماعيّة: رصيدها رموز، ورموزها أوعية تسكب فيها الصّور المشتقة من حياة النّاس فيؤولُ الأمر باللغة إلى صَوْغ شبكة العلاقات الجامعة بين أطراف الحياة البشريّة فيما هم قائمون عليه، فكان لزاما أن تتأسّس اللّغة على قوانين الحركة الذاتيّة، وهذا مفاد الصّورة المجازيّة التي نلجأ إليها عند نعتها بالكائن الحيّ، أو عند إسناد صفة النّموّ إليها.


فالأحداث هي التي تستحثّ اللغة أن تُصوِّر دلالاتها عبر صوغ ألفاظها حتّى تتلاءم والتّطوّرَ الحاصل في ذاكرة الحضارة المتجدّدة. ولمّا كانت العلوم بمثابة الأنسجة العضويّة التي تنمو خلاياها نموّا رياضيّا فإنّها أشدّ المنبّهات وقعا على اللغة، تستفزّها بالمفاهيم فتردّ الفعلَ بولادة المصطلحات، إلاّ أنّ اللغة في خضم هذه الصيرورة التّاريخيّة تقف مشدودة إلى قطبين متدافعين يتجاذبها الأوّلُ بدافع المواكبة ويشدّها الثاني بوازع حب البقاء اتقاءً للانسلاخ الماحي لرسمها، وليس ما نسمّيه بحياة اللّغة سوى قدرتها على ترشيح النّاموس المعدِّل للنّقيضين: أن تتلاءم مع الاقتضاءات المتجدّدة وأن تُبقيَ على بُناها التي تحدّد هويّتها بين الألسنة.

على أنّ اللّغة مثلما هي مدفوعة إلى التركح بين ضغط الحاجة وضرورة سدّها فإنّها محمولة على التّوسّط بين جنوح المحافظة وناموس الاستعمال؛ لذلك تسعى دوما إلى استيعاب المدلولات دون دوالها فإذا أعْيَتها الحيلة استقبلت القادمَ عليها دالا ومدلولا فيكون “دخيلا” ترضخه إلى أبنيتها حتّى يتواءم ونسق الصّوغ الأدائيّ لديها.

هذه حقائق قوامُها معرفيّ، وسنداتها بديهيّة عند مَن مارس العلم وحاول معالجة شيء من أبوابه بالوضع والاستحداث، ولكنّ سند الممارسة لفرط بَداهته يختفي، والأسّ المعرفيّ لبُعد تشابكه ودقة تجرّده كثيرا ما يحتجب، ولاحتجاب هذا وخفاء ذاك تظهر مشاكل زائفة تلوّح بقضايا يفتعلها الذهن لتلابس الاستدلال الصّحيح، وعندئذ تتحوّل معضلة المصطلح إلى إشكال تتجاذبه عائقات مبدئيّة وخيالات مصطنعة عليه.
 
وأكبر اعتراض زائف وأشدّه غرابة إذا أورده أهل الذكر من الذين يحترفون العلمَ أن يَعْزوَ بعضهم استغلاق العلم عليه إلى تعسّر المصطلح؛ ظانّا أن لو كان الأداء الاصطلاحيّ على غير ما هو عليه لأدرك كلّ العلم الذي حُمّلت اللغة إيّاه، وترى البعض قد انبرى ناقدا فيرمي الخطابَ العلميّ بالإلغاز والتعمية مشهّرا بما ظنّه إغلاقا في المصطلح، وطاعنا في مَن لا يُواسي أمرَه بتقديم مادّة العلم بعد طرح جهازه المصطلحي، ذاك هو الفصل بين مضمون العلم وأدواته، وذاك هو الانتقاض: أنْ تَستبقيَ العلمَ وقد سلبتَه بنيتَه التي يتأسّس عليها.
 

الأمة