ممارسة اللغة العربية

أ. عبدالقادر مصطفى عبدالقادر

 

إجادةُ اللغة العربية حديثًا وكتابةً؛ فنٌ رفيعٌ لا يُتقنه إلا قلَّة في بلاد العرب مُقارنةً بأعدادهم الهائلة؛ رغم كثرة من يحملون شهاداتٍ مُتخصصة فيها؛ تتدرج من الليسانس حتى الدكتوراة، ورغم ممارستهم أعمالًا ذات صلة وثيقة بها على مدى عمر وظيفي طويل، ورغم وجود منبع صافٍ لها لا ينضب له معين؛ مُمثلًا في القرآن الكريم، فما السبب يا تُرى؟!.

أزعمُ أنَّ السبب يَكْمنُ في أسلوب التعليم في المدرسة والجامعة؛ إذ ينصبُّ غالبًا على دراسة القواعد اللغوية والنحوية؛ دون منح الفرصة لبلورة ذلك في ممارسة عملية على هيئة مُقَالَةٍ أو مكتوبة إلا بالقدر اليسير، ودون إعارة هذا القدر اهتمامًا يبرزه ويؤكده في السلوك التعليمي للمُتلقي، الأمر الذي يُرسِّخ انطباعًا لدى المُتعلمين على اختلاف مراتبهم بأن تَعَلُّمَ اللغة ينحصر في هذا النمط أو ذاك القالب!، فيضيق أفق اللغة الواسع في عقولهم وأفئدتهم ووجدانهم.

في مدرسةٍ ثانوية؛ ولم أكن مُعلمًا للغة العربية فيها؛ بينما تزخر بكوكبة كبيرة من معلمي اللغة العربية؛ كلهم بدرجة خبير؛ لم أجد فيهم من يَحُوز مَلكة الإرتجال بمفرادتها العذبة في أية مناسبة، ولم أجد فيهم من يستطع مُخاطبة أو مُحادثة أو مُحاضرة جمهورٍ بعباراتها الشجية، ولم أجد فيهم من يطوع حروفها بقلمه فيصوغ كلمة فرضها ظرف ما، وقليلًا ما كنت أرى أحدهم يقرأُ من الورقة قراءة صحيحة؛ ولا أقول بليغة!، وقد كانوا في معظم الأحوال يأتون إليّ لأصوغ لهم وأكتب وإني غير المُتخصص!.

المشهد السابق هو وصف بطريقة العينة لما يحدث في مُعظم المؤسسات التعليمية، فمن أين تأتي اللباقة والطلاقة والفصاحة والبلاغة؟!، وقد سجنا اللغة الفريدة وراء قضبان المرفوع والمنصوب والمجرور والمبني، رغم أن حريتها ومرونتها هي التي حررت قواعدها وليس العكس، فالكلمة قد وُجدت أولًا، وكان العرب أهل بلاغة وبيان قبل تنميق قواعد النحو.

القرآن الكريم بعظمته وهيبته ضرب أمثلة بيِّنة على الإنعتاق من التنميق الظاهر ليمنح اللغة العربية خيالًا وإبداعًا يحلق فوق القيود، ليُطلق العنان لخلق مفردات وتراكيب تتسق مع عمق واتساع هذه اللغة، ولا أتفق أبدًا مع مقولة «إنَّ القرآن له نسقه الخاص»، لأن القرآن كتاب مُعلِّم، ومن ذلك حينما يقول الله {وإنْ طائفتان من المؤمنين اقتتلوا}، ولم يقل سبحانه «اقتتلتا»، فهذا نسق قرآني فريد يُفسح المجال أمام التأمل والخيال اللغوي، فلماذا لا نفعل؟!.