لماذا يجب علينا دراسة التجربة الإسرائيلية في عبرنة التعليم العالي؟

د. يحيى نايف اللحام

 

لم يعد مفهوم " اللغة القومية " – خلال القرنين الأخيرين على أقل تقدير – محصوراً في حدود تحقيق التواصل مع الآخرين، والتأليف بينهم على  صعيد واحد ، أو وصف الأشياء المجردة والعمليات المعقدة ،  بل حلق بعيداً متجاوزاً هذه الحدود إلى آفاق جديدة أرحب وأوسع وأكثر خطورة ، فارتبط هذا المفهوم بعلاقات قوية وراسخة بالحق في الوجود، والقدرة والكفاءة في التأثير، والاصطفاف بجدارة في مقدمة القافلة، للقيام بدور فاعل وصعب في صناعة القرارات والأحداث التي تحكم وتوجه الوجود الإنساني على هذا الكوكب . 

لذلك نرى كثيراً من الأمم والشعوب تحرص على بذل المجهود وإنفاق الغالي والنفيس؛ من المال والوقت والفكر والجهد، لتطوير لغاتها القومية بما يؤهلها لمواكبة جميع تطورات العصر، والقيام بوظائفها النامية والمتجددة ، وعلى رأسها قدرة اللغة على اختزان ونقل كل ما يستجد من علوم ومعارف .
ولا نستغرب عندما نرى أمة صغيرة على بقعة جغرافية محدودة، تسعى لتحقيق وإثبات وجودها – بغض النظر عن أحقيتها من عدمه – من خلال كلمة السر؛ وهي ( اللغة ) فتبادر إلى إحياء لغتها القومية وتأهيلها، لتكون لغةً حيةً معاصرةً قادرةً على احتواء وتداول العلوم والمعارف في أروقة المؤسسات المختلفة، وذلك كخطوة أساسية وجذرية للوصول إلى مكانة تمكنها من التأثير وإثبات الذات وإعلان الوجود.
وأظن أنها نجحت في ذلك بالرغم من حجم المشكلات والصعوبات التي واجهتها ، فقد تغلبت على مشكلة جمود اللغة وفقرها إلى معظم المصطلحات ، فاللغة العبرية قبل إحياؤها كانت لغة دينية محنطة في المعابد ، كما أنها عملت على تطوير الكفاءة اللغوية لدى معظم أساتذة الجامعات وكلفتهم بنقل وترجمة الكتب العلمية في مجال تخصصاتهم إلى اللغة العبرية، فأصبح الأستاذ الجامعي يجيد العبرية، وقادراً على التدريس والنشر بها، كما أن العدد المتواضع للمتحدثين بها، لم يشكل عائقاً أمام هذا المشوار ، فعدد الإسرائيليين لا يتجاوز الست ملايين نسمة ، ولا أعتقد أن هناك مرجعاً واحداً بالعبرية كان متوفراً في العلوم العصرية قبل بدء التجربة، ومع ذلك تم تجاوز هذه المشكلة .
وبمقارنة هذه المشكلات التي تجاوزتها "العبرنة" بالمشكلات التي نواجهها في تعريب تعلمينا، فلا نكاد نرى لمشكلاتنا وجود ، فقط هي الإرادة التي نفتقدها تشكل أكبر العقبات أمام تعريبنا لتعليمنا وتعظيمنا للغتنا الحية، والتي لم تمت يوماً منذ مئات السنين .
ويمكننا أن نستنتج مما تقدم، بعض الحقائق التي يمكن أن نعرضها على  المعارضين  والرافضين لفكرة التعريب، والذين غالباً ما يتذرعون بجملة من  الصعوبات والمشكلات التي من المستحيل تجاوزها من وجهة نظرهم .