جبران خليل جبران شاعر أم مقلد

د. محمد سعيد حسب النبي

دفع طلب الرزق الأسرة لأن تنتقل بين دمشق وبعلبك لينتهى بها المقام بقرية بشري في الشمال اللبناني، ويبدو أن المكان بعبقريته غزل في وجدان الفتى نسيج إبداعه؛ فالقرية تعلو سطح البحر لتغدو سكناً دائماً للهواء العليل، ومن تحتها واد سحيق يضفي مهابة لقاطنيها، والزرع والشجر يتعانقان ليتوجا في حب أعشاشاً لطيور انطلقت تغرد في فضاء رائق ماتع. في هذا المكان الساحر نشأ جبران خليل جبران.

إن نشأة كتلك، وفي مكان فاضت فيه الطبيعة بخير ما فيها من عوامل إبداع؛ جعلت لجبران عيناً يرى بها الكون والحياة برؤية مختلفة، كما أنها منحته قدرة على التأمل رافقته في رحلة حياته وحتى مماته، ومروراً بأعماله التي كانت وستظل أثراً نابضاً في قلب الأدب الإنساني.

كتب جبران يوماً ليؤطر للعلاقة بين اللغة والشاعر، ويجعل ارتقاء اللغة متلازماً مع إبداع الشاعر، وموت اللغة مقروناً بموته، وبانتشار المقلدين الذين جعلوا من إبداعات المبدعين مسوخاً تنسج أكفان اللغة تمهيداً لقبرها.

ولعلنا نتفق مع جبران فيما أشار إليه؛ فهو شاعر حقيقي ومجدد لغوي ومبدع أصيل لا يختلف عليه اثنان، وإني أكاد أجزم أن أصالة الإبداع عند جبران تولدت من رحم الطبيعة التي احتضنته وليداً وطفلاً صغيراً، كما أنها هذبت نفسه البريئة لتستولي على كيانه في جلسات تأمله المتوالية؛ مؤنسة له، ومستأنساً بها، حتى أصبحت مناجاته الطبيعة ورداً يومياً وغذاءاً فطرياً؛ تُسّر إليه ويُسّر إليها.

ولنقرأ سوياً بعض ما كتبه جبران عن تلك العلاقة الروحية بين اللغة والشاعر.
 
يقول جبران خليل جبران: إن خير الوسائل، بل الوسيلة الوحيدة لإحياء اللغة، هي في قلب الشاعر وعلى شفتيه وبين أصابعه، فالشاعر هو الوسيط بين قوة الابتكار والبشر، وهو الواسطة بين عالم النفس وعالم البحث، وما يفرزه عالم الفكر إلى عالم الحفظ والتدوين.

والشاعر أبو اللغة وأمها، تسير حيثما يسير، وتربض أينما يربض، وإذا ما قضى جلست على قبره باكية منتحبة، حتى يمر بها شاعر آخر ويأخذ بيدها.
وإذا كان الشاعر أبا اللغة وأمها، فالمقلد ناسج أكفانها وحفار قبرها.

ثم يقول جبران:
أعني بالشاعر كلَّ مخترع، كبيراً كان أو صغيراً، وكل مكتشف قوياً كان أو ضعيفاً، وكل مختلق عظيماً كان أوحقيراً، وكل محب للحياة المجردة، إماماً كان أو صعلوكاً، وكلَّ من يقف متهيباً أمام الأيام والليالي، فيلسوفاً كان أو ناطوراً للكروم.

أما المقلد، فهو الذي لا يكتشف شيئاً ولا يخلق أمراً، بل يستمد حياته النفسية من معاصريه، ويصنع أثوابه المعنوية من رقع يجزها من أثواب من تقدمه.

وأعني بالشاعر: الملاح الذي يرفع للسفينة ذات الشراعين شراعاً ثالثاً، والبناء الذي يبني بيتاً ذا بابين ونافذتين بين بيوت كلها ذات باب واحد ونافذة واحدة، والصباغ الذي يخرج الألوان التي لم يمزجها أحد قبله، فيستخرج لوناً جديدًا، وهكذا يضيف كل من الملاح والبناء والصباغ شراعاً جديدًا إلى سفينة اللغة، ونافذة إلى بيت اللغة، ولوناً إلى ثوب اللغة.

أما المقلد: فمقلد حتى في حبه وغزله وتشبيبه، فإن ذكر وجه حبيبته وعنقها قال: بدر وغزال، وإن خطر على باله شعرها وقدها ولحظها قال: ليل وغصن بان وسهام، وإن شكا قال: جفن ساهر، وفجر بعيد، وعذول قريب، وإن شاء أن يأتي بمعجزة بيانية قال: حبيبتي تمطر لؤلؤ الدمع من نرجس العيون لتسقي ورد الخدود وتعض على عناب أناملها ببرد أسنانها!

أعني بالشاعر: ذلك المتعبد الذي يدخل هيكل نفسه فيجثو باكياً فرحاً نادباً متهللاً، مصغياً مناجياً، ثم يخرج وبين شفتيه ولسانه أسماء وحروف واشتقاقات جديدة لأشكال عبادته التي تتجدد في كل يوم، وأنواع انجذابه التي تتغير في كل ليلة، فيضيف بعمله هذا وترًا فضياً إلى قيثارة اللغة، وعوداً طيباً إلى موقدها.

أما المقلد فهو الذى يردد صلاة المصلين وابتهال المبتهلين، بدون إرادة ولا عاطفة، فيترك اللغة حيث يجدها والبيان الشخصي حيث لا بيان ولا شخصية.

الشعر –ياقوم– روح مقدسة متجسمة من ابتسامة تحيي القلب، أوتنهيدة تسرق العين مدامعها، وأشباح مسكنها النفس، وغذاؤها القلب، ومشربها العواطف، وإن جاء الشعر على غير هذه الصور فهو تقليد كاذب!