اللغة العربيّة .... ومناهجنا الجديدة

أ. سعاد حويجة

درجت العادة ونحن نعمل من أجل التمكين للغة العربية ؛أن نبدأ بالحديث عن أهمية هذه اللغة  و مكانتها العظيمة التي بوأها إياها ربّ العالمين جلّ جلاله ، عندما اختارها لغة لكتابه السرمديّ

( القرآن الكريم ) ،وكثر مديحنا لها وهي ليست بحاجة للمديح بقدر ما هي بحاجة إلى خدمة علميّة . فكيف نتمكّن من خدمتها علميّاً ؟ سؤال ليس من السهل الإجابة عنه ، ونحن فيما نحن عليه من الترديّ والتدحرج ، والنزوع إلى التكرار ، والنقل ، و الاتباع ، والبعد عن التجديد والابتكار .

نحن اليوم نتّبع ما تنتجه لنا مراكز الأبحاث والمخابر الغربية من مركز تسلطها الجديد في القارة الجديدة فهي تهدف إلى هندسة السلوك الإنساني دون أخذ في الاعتبار ما تنطوي عليه الشخصية الإنسانية ، قال تعالى في كتابه العزيز : ( يا أيها الناس إن خلقناكم من ذكر وأنثى و جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا )  فالله سبحانه خلق البشر على هذه الصورة من التمايز و التفاوت و الاختلاف في العروق و الأجناس ، من أجل غاية سامية  جداً و هي التعارف بين هؤلاء البشر و قيام العلاقات في ما بينهم ، كي تكون لكلّ أمّة أو لكلّ شعب حضارته و ثقافته و قيمه و أخلاقياته. ويقول تعالى في موضع آخر ( لو شاء لجعلكم أمّة واحدة ) .

فأنى للمخابر الغربية والأمريكية أن تقوم بما تقوم به من محاولاتٍ الهيمنة على الشعوب  وجعلها كلّها تابعة لما تخططه ، و تهندسه ثمّ تصدّره عبر وسائلها التكنولوجيّة المتطوّرة التي  

تحفل بكلّ المغريات ، وأساليب التشويق والإثارة فيتلقفها أبناؤنا على حين غرّة ، وهم مبهورون بها دون أن يدركوا ما تنطوي عليه من المخاطر، ومن محاولات لشلّ كلّ تحليل أو تفكير ، أو نقاش لديهم فيفقدون القدرة على أن يملكوا من أمورهم ولو النزر اليسير ، وحتّى العلم ومناهجه  وقواعد البحث فيه كلّها جاهزة تتعامل معها مجتمعاتنا كما تتعامل مع الألبسة الجاهزة .

وهنا لقائل أن يقول : إذا كان الأمر كذلك فلتدفع هذه الشعوب ،ونحن منها ثمن خمولها  وتقاعسها ، وتبعيتها ...

أمّا ما شأن اللغة هنا أيّة لغة أمّ كانت ؟ لغتنا العربيّة أم غيرها من اللغات الأمّ الأخرى التي يتهدّدها الانقراض ( لا خوف على اللغة العربيّة ) بفعل ما يجري من محاولات الهيمنة الأمريكيّة أو ما يسمّى العولمة التي تتظاهر ضدها كلّ الشعوب الحيّة في العالم ؟

فاللغة الأمّ هي الترسانة الثقافيّة التي تبني الأمّة ، وتحمي كيانها ، وهي الأداة التي تحمل الأفكار، وتنقل المفاهيم، فتقيم بذلك روابط الاتصال بين أبناء الأمّة الواحدة فما أشبهها بالكائن الحيّ الذي ينمو ،ويحيا ،ويموت أيضاً ... يموت وموته إمّا أن يأتي من فرط الحضارة أو من انعدامها كليّاً ، وأمّا الموت من فرط الحضارة فهو موت في ظاهره ، ونمو وتجدد في محتواه ،وأبعاده ....كموت حبّة القمح التي لا يمكنها أن تمنح الهلاك أيّ الفناء ،والانقراض وهي كما يقول الشاعر محمود درويش  :

                                      وحبوب سنبلة تموت ستملأ الوادي سنابل

ومثل اللغة أيضاً مثل أجيال الشباب التي تتالى ممتلئة نشاطاً وحيويّة وقدرة ... فإن وجدت المتسع لتلك الطاقات أن تنمو وتزدهر ، كان العطاء ،وكان الخير ، وإلا فالخمول ،وتضييع الإمكانات ،وموت القدرة على الإبداع ... وما متسع اللغة إلا بما تمنحها الحياة إيّاه من نمو وقدرة على التعايش مع الحياة, بل على التعبير عنها بالأشكال اللائقة ،وما ذلك إلا من صنع الناس أنفسهم أبناء أمّة اللغة فهم الذين يتخذون من اللغة أسلوباً لحيواتهم الماديّة والروحيّة ...

ومن خلالهم فقط تحيا اللغة أو تموت .... وعلى النقيض من ذلك يمكن أن يكون اتخاذ اللغة معياراً دقيقاً لقياس نهضة الشعب الذي يتكلّم باللغة المعنيّة . ونهضة الشعب أيّ شعب وتجاوزه لحالة التبعيّة التي تتمثّل بالتكرار، والانبهار بكلّ عناصر حضارتهم كما أسلفنا لا يمكن أن تكون إلا بولادة عصر الإبداع .... ولنتكلّم عن عصر إبداع عربيّ بإذن الله من خلال ما حصل في سوريّة ، وقد تكون بعض الدول العربيّة سبقتنا إلى ذلك ،وأقصد هنا مناهجنا الجديدة التي انطلقت من وثيقة معايير وطنيّة استمرّ العمل بها ما يقارب العقد من الزمن ،وقد اعتبرت هذه الوثيقة اللغة العربية :

منظومة من الأصوات البشريّة لها نسقها الخاص الذي يقوم على تركيب هذه الأصوات في مفردات ،وتراكيب لها دلالات مستمدّة من ،معاني هذه المفردات ،ونسق ترتيبها وفق منطق اللغة .

ويسعى منهاج التعليم إلى تثبيت أصول هذه المنظومة ،والحفاظ على قواعدها في مواجهة التطوّر الذي يصيب اللغة .

وتأتي أهميّة تدريس مادة اللغة العربيّة من كونها أداة تفكير وتعبير عن حاجات الفرد ،وقناعاته تعبيراً كاملاً ، باللسان ،والقلم ،وأداة اتصال ،وتواصل مع الثقافات ،واللغات الأخرى ،ووسيلةّ يتلقّى بها المتعلّم علومه ،ومعارفه في مراحل التعليم المختلفة .

وتعدّ اللغة العربيّة الرابط الأهمّ في وجودنا القوميّ ؛ فبها يتعرّف المتعلّم تاريخ أمّته وتراثها الأدبيّ ،والحضاريّ . يشرح ( جاك بيرك )  أهميّة التراث في حياة الأمّة بقوله : (( إنّ الهويّة لا تنفصل عن التاريخ ،ولكن لكي تحافظ على الهويّة عبر تتابع الأطوار التاريخيّة لا بدّ من وجود ثوابت . بدونها سيكون الأمر تغييراً في الكينونة . هل ثمّة من يقول بوجود كائن يحلّ محلّ كائن آخر في مراحل حياة الإنسان طفلاً

ومراهقاّ ،وراشداً ؟ أليس هو نفس الكائن الذي يتطوّر ؟ إنّ ذلك ينطبق على الشعوب.)) وبناءً عليه أيّ على تراثنا الأدبي ّ والحضاريّ فإنّ تعليم اللغة العربيّة يهدف إلى جملة أهداف وقيم تجعل أبناء أمّة هذه اللغة إذا ما تحقّقت هذه الأهداف بفضل عزيمة معلمينا لبنات صالحة في أساس الوطن الحضاريّ الذي ننشد .

إضافة إلى ذلك فإنّ معايير المناهج التربويّة لمادة اللغة العربية تتضمن معارف ،ومهارات ،وقيماً يحتاج إليها المتعلّم في حياته اليوميّة ،وقد تمّ التركيز في صياغة معايير مادة اللغة العربيّة على ما يأتي :

1-    الانسجام مع حاجات المتعلّم ،واهتمامه ،ومشكلاته .

2-    جعل المتعلّم عنصراً فاعلاً ،ومشاركاً في التنميّة .

3-    وضع مخرجات تعليميّة قابلة للقياس ،والتقويم تناسب سنّ المتعلّم ،وتنمّي مهاراته.

4-    تمكين المتعلّم من تعليم يتصف بالجودة .

5-    استخدام ( استراتيجيات ) التعلّم النشط ،وطرائق التدريس الفعّالة .

كما تمّ التأكيد على أهمية استخدام المداخل الفرعيّة الآتيّة :

1-   مدخل أساسيات المعرفة :

ويركّز على المفاهيم الرئيسة ، وعلى إكساب المتعلمين القدرة على التعلّم بأنفسهم ،وأن تكون المفاهيم مناسبة لنموّهم فيزيولوجيّاً وفكريّاّ ،وأن تكون وظيفيّة ترتبط بحياة المتعلّمين . كما يركّز على جعل أساسيّات المعرفة العلميّة واللغويّة وسيلة وليست غاية،والاهتمام بالكيف ،والعمق المعرفي .  

2-    المدخل التكاملي : التكامل يعني هنا الترابط بين مجالات اللغة من جهة ،وبين منهج اللغة العربيّة ومناهج المواد الأخرى من جهة ثانيّة .

3-    مدخل المهارات : اعتمدت المناهج الجديدة على تعليم الطالب المهارات . والمهارة تعني القدرة على القيام بعمل بدقّة ،وبأقل جهد ،وبأقل كلفة ،وبأقل وقت (دون أذيّة ) وتساعد المهارة المتعلّم في مجال اللغة العربيّة على توظيف معارفه المكتسبة في المواقف الحياتيّة المختلفة ، وينبغي الاهتمام بالمجريات أكثر من النتائج (أيّ أن نعلّم الطالب كيف يفكّر ،وليس المهم أن يعطي الجواب (حفظاً ) وهنا تكون النتيجة هي المهمة . يجب أن نعرف كيف فكّر أو كيف يفكّر حتّى وصل إلى النتيجة .

وهنا نطرح سؤالاً : أين توجّه التفكير ؟   والجواب :

نحو استراتيجيّات ،وخطط لوضع الحلول ( المتعلّم هو محور عمليّة التعلّم ،وهو الذي ينتج المعرفة . والتفكير يبدأ عندما تواجهنا مشكلة ، والمشكلة هي صعوبة عقليّة معرفيّة تواجه المتعلّم لا تكفي المعلومات لدى المتعلّم لحلّها فلا بدّ من التفكير من أجل حلّها .

وهناك مستويات للتفكير صنّفها (( بلوم )) وفق ستة مستويات تتدرج صعوداً وصولاً إلى اتخاذ القرار ،والمبادرة التي تحتاج إلى مساحة من الحريّة . وقد أدركت قوى الهيمنة والاستعباد منذ أمد ما لهذا النمط من الأساليب القديمة التي كانت متّبعة في مدارسنا ، والقائمة على الحفظ الصمّ من لجم للقدرات الإبداعيّة . وفي المثال الآتي توضيح لذلك وهو ما لخصه (أنور عبد الملك ) لواقع التعليم في مصر أيام الاحتلال البريطاني :

(( رأى دنلوب مستشار التربيّة أيام اللورد ( كرومر ) أنّ الضمان الوحيد لاستعباد مصر لا يكمن في الاحتلال العسكريّ والاستعمار الاقتصاديّ ، وإنّما في ضرب الفكر عند المصريين في الصميم بحيث يصبح عاجزاً عن التطوّر والإبداع ،ويظلّ معتمداً على غيره ورأى أنّ هدفه لا يتحقّق إلا إذا اتجه التعليم في مراحله المختلفة نحو الحفظ دون المناقشة والترتيل دون النقد ،والمحاكاة للمرجع ،والأستاذ دون مناقشة وتكوين رأي مستقل واحترام الكلمة المكتوبة دون امتحانها ،والتصارع الفكريّ معها . وهنا علينا أن نعي أنّ مخرجات النظم التعليميّة المطلوبة اليوم لم تعد تأبه لمتعلمين يجيدون القراءة والكتابة والحفظ فحسب بل إنّ أحد أهم أهداف التربيّة المعاصرة ، يتمثّل في إعداد متعلّمين قادرين على الاستفادة من كونهم يقرؤون ،و يكتبون . لذا فإنّ غالبية نظم التربيّة ،والتعليم في العالم تضع اليوم في الرأس من أهدافها تنمية ثقافة المتعلّمين من خلال امتلاكهم طرائق في التفكير ،والبحث ليكونوا قادرين على تجاوز النصوص الموجودة تحت أيديهم إلى دائرة الإبداع ،والتجديد وإلى آفاق التحرّر من الآراء الجاهزة ،والأفكار والقيم المحفوظة ، ووسيلتها في ذلك تدريب العقل على التفكير،والإبداع ،وهو ما قامت عليه مناهجنا الجديدة ؛والذي يتطلّب منّا الكثير من العمل الجاد ، والهادف ،وتسخير التكنولوجيا ،والتقانة لخدمة العمليّة التربويّة ،والتعليميّة وبالتالي الحفاظ على (لغتنا العربيّة التي ترتبط بتاريخنا ،وثقافتنا ،وهويّتنا ،وكي تعيش معنا كائناً حيّاً ينمو ويتطوّر ويزدهر ،ويكون في المكانة التي يستحقها  جوهراّ لانتمائنا القوميّ.)