تجارب ناجحة في تعليم الطب باللغة العربية

يقول صاحب كتاب «تجربتي في تعليم الطب باللغة العربية» إنه يوجد في العالم العربي نحو تسعين كلية طب منها (78) كلية تدرس باللغة الإنجليزية وست كليات تدرس باللغة الفرنسية و5 كليات تدرس باللغة العربية وكلية واحدة تدرس باللغة الإيطالية -هذه الإحصائية كانت وقت صدور الكتاب في طبعته الثانية عام 1416هـ وقد زادت بعد ذلك بطبيعة الحال- وبما أن اللغة الإنجليزية هي الغالبة في تعليم الطب في المشرق العربي فسنذكر في الأسطر التالية تجربة ناجحة في المشرق العربي نفسه لتعليم الطب باللغة العربية.

يقول مؤلف الكتاب: «في عام 1982م شاركت في مهرجان العلم في سوريا والتقيت بصديقي الأستاذ الدكتور زهير حلاج عميد كلية طب تشرين في اللاذقية فدعاني لحضور بعض المحاضرات في كلية الطب واستمعت إلى محاضرات تلقى باللغة العربية فوجدت الطلبة والأساتذة يتحاورون ويتناقشون بطلاقة واضحة وبحيوية بالغة وهي ظاهرة تكاد نفتقدها في كليات الطب التي تدرس باللغة الإنجليزية، نفس الملاحظة وجدتها في كلية طب دمشق حيث وجدت المحاضر قادراً على التعبير عن نفسه بلغة عربية سليمة، كما وجدت الطلاب يناقشون ويجادلون بحيوية وانطلاقة مما زاد في إيماني بضرورة تعليم الطب باللغة العربية، ويقول في موضع آخر من الكتاب: قد يظن بعضهم أن تعليم الطب باللغة العربية في سوريا أدى إلى تدني مستواه وهم لا يقولون هذا عن إسرائيل التي تعلم الطب باللغة العبرية، ولكي نحقق في الأمر بحثنا نتائج الأطباء السوريين في امتحان المجلس التعليمي للأطباء الأجانب وهو امتحان تعقده الولايات المتحدة الأمريكية عدة مرات في كل عام ويتقدم إليه في كل مرة نحو عشرة آلاف طبيب من مختلف أنحاء العالم ومن يجتازه يحق له العمل أو الدراسة الطبية العليا في الولايات المتحدة الأمريكية واتضح أن الأطباء السوريين لا يقل مستواهم في الامتحان المذكور عن مستوى زملائهم الأطباء في مختلف أنحاء العالم ويقول: وننبه القارئ إلى أن امتحان المجلس التعليمي للأطباء الأجانب يعقد باللغة الإنجليزية أي أن تعلم الطب باللغة العربية لم يكن عائقاً أمام الأطباء السوريين يحول دون أدائهم للامتحان واجتيازهم له بنجاح ما رواه الأستاذ الدكتور زهير أحمد السباعي في كتابه آنف الذكر لا يستغرب بل هو المتوقع من اللغة العربية بالنسبة للإنسان العربي، اللغة العربية سابق لا يلحق ولا حق لا يسبق في البيان والإيضاح للمعلومة للطالب العربي وللمدرس العربي. هذه الشهادة الواقعية الموثقة لها مصداقيتها إذ هي معززة ومؤيدة بما هو مثبت في أدبيات قضية التعريب، ومن ذلك ندوة تعريب التعليم الطبي والصحي التي عقدت في دمشق عام 1988م والتي شارك فيها ثلاثة عشر وزيراً وأربعون من عمداء كليات الطب في العالم العربي فقد قررت هذه الندوة أن يكون عقد التسعينيات هو عقد التعريب الطبي» وهذه التوصية لم تصدر من فراغ وإنما هي تعبير عن قناعة راسخة بأن تعريب التعليم الطبي هو الأصلح للأمة العربية، وفي نفس السياق انعقد المؤتمر الإقليمي لتعريب الطب الذي عقدته منظمة الصحة العالمية في القاهرة عام 1999م الذي شارك فيه ستة وثلاثون من عمداء كليات الطب وأساتذة العلوم الصحية والطبية في العالم العربي وعدد من ممثلي المؤسسات والهيئات العربية، واتفق المؤتمرون على أن يبدأ بتطبيق التعليم الطبي باللغة العربية على الفور في البلاد العربية» وقد جاء في قرارات المؤتمر: «يؤكد المؤتمر أن تعليم العلوم الصحية باللغة الأم عمل ثقافي وحضاري وعلمي يضمن حسن الاستيعاب ويسر العملية التعليمية مما يؤدي إلى تحسن أداء الخدمات الصحية ورفع المستوى الصحي بوجه عام، ويسجل -المؤتمر- بكل اعتزاز تلك الصحوة النشيطة لحركة تعريب الطب الصحي والطبي التي سادت العالم العربي في السنوات الأخيرة»، وانتهى المؤتمر إلى أن «تعريب التعليم الصحي والطبي هدف التزمت به مختلف المنظمات والمجالس والهيئات المختصة ودعت إلى تحقيقه في كل كليات الطب بحلول سنة ألفين». وفي تقرير لجامعة أسيوط بجمهورية مصر العربية ما نصه: «يتميز التدريس بالعربية للطالب العربي بأن نقل الأفكار يتم بطريقة مباشرة سلسة دون حاجة لترجمة داخلية تعوق التلقي المباشر واللغة الأم تلقي بظلالها على المعاني فتكسبها ثراء واتساعاً وتلخصها بنفس المتلقي وذوقه فتترك لديه أثراً باقياً وقد لاحظنا أن اللغة التلقائية تجعل الطالب أكثر ثقة بما يقول وأكثر تعبيراً عن مشكلاته وجرأة على المناقشة والحوار» وقد أيدت القمة العربية المنعقدة في دمشق عام 2008م هذا التوجه وأيده مؤتمر القمة المنعقد في الدوحة عام 2009م، وإنفاذاً لذلك أعلنت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم أنها أطلقت مشروع تعريب التعليم في الوطن العربي وذلك في إطار تنفيذ مشروع النهوض باللغة العربية لدخول مجتمع المعرفة الذي اعتمدته قمتا دمشق والدوحة، وسواء أعلنت المنظمة العربية والثقافة والعلوم أنها أطلقت مشروع تعريب التعليم في الوطن العربي أو لم تعلنه ولم تطلقه، فقد برز للعيان أن تعريب الطب حاز على توصيات وعلى قرارات ترقى إلى درجة اليقين بأن تعريبه واجب وطني لا يتوقف على جهد تقوم به المنظمة العربية لأن الذين أوصوا بتعريب التعليم الطبي هم ذوو الاختصاص في التعليم الطبي لأنهم عمداء في كليات الطب «فسأل به خبيراً» «ولا ينبئك مثل خبير» «وأهل مكة أدرى بشعابها» كما يقول المثل. وشاركهم وزراء في نفس الاختصاص.وما يصدق على التعليم الطبي يصدق على بقية العلوم البحتة، والمنظمة العربية المذكورة تعرف هذا قبل غيرها ويعرفه الجميع.

وواقع اللغة العربية خرج من دائرة الشك إلى دائرة اليقين واعترف العالم باللغة العربية في المحافل الدولية، ومن الواجب أن يراجع العرب مواقفهم من قضية تعريب تعليم العلوم البحتة بعد أن فشل مشروع التعجيم في تحقيق التقدم المطلوب، تجربة التعجيم في الوطن العربي منحت من الزمن الثمين الشيء الكثير وهو ما لم يسبق لتجربة تعليمية أن منحته على مر لتاريخ لقد مضى على هذه التجربة ما يزيد على قرنين من الزمن ولا يزال وسيظل حصاد الأمة العربية من هذه التجربة التخلف والإحباط طويل الأمد فيما يخص تعليم العلوم البحتة وخسارة وقت وجهد ومال لا تنكر، لقد تيقن العالم أجمع أن اللغة الأم هي الأجدر وهي الأحق بأن تكون لغة العلم ولسان التعليم في كل دولة، وفي هذا السياق يذكر الباحثون اللغة اليابانية كمثال حيث أصبحت لغة علم لليابانيين ولمن وفد عليهم لينهل من علمهم ولا أحد ينكر ذلك.

ومثلها اللغة البولندية واللغة العبرية واللغة الدانمركية ولغة السويد وغيرها، لقد أصبحت لغات دول صغيرة كهذه الدول لغات علم لأن أبناء كل دولة من هذه الدول يتعلمون جميع العلوم بلغتهم الأم بل إن دولة فيتنام بعد استقلالها تعلم أبناؤها الآن جميع العلوم باللغة الفيتنامية، وبهذا المفهوم يعتبر تعجيم تعليم العلوم البحتة في الوطن العربي غلطة تعليمية تاريخية كبرى لا نظير لها، وبما أن اللغة العربية إحدى اللغات الست المعترف بها دولياً ولها تاريخها المجيد فإن من واجب العرب تفعليها باعتبارها لغة علم وعليهم أن يقروا بأن اللغة العربية أفضل لسان تعليم للإنسان العربي الذي نطق أول ما نطق بها، ونشأ منذ حداثته عليها مستمعا إليها ومتحدثاً بها حتى ترسخت في ذاكرته ووجدانه وعقله وتكون لديه إحساس عميق بها وشعور مرهف لها كما يقول الباحثون، لقد تأكد لكثير من الباحثين من ذوي الاختصاص أن تخلف الأمة العربية له أسباب وأن من أهم هذه الأسباب نكبة الأمة العربية في لسانها في التعليم ويقولون: إن من أسباب تخلف الأمة العربية أيضا تقصير الأمة العربية في الترجمة وإذا كان ما أوردته بعض وسائل الإعلام العربية صحيحا من كون ما تترجمه الدول العربية من العلوم إلى اللغة العربية في عام يقل عما تترجمه دولة اليونان إلى لغتها فذلك أمر من العسير الاعتذار عنه, لقد كان قدر الطالب العربي أن يحرم من حقه الإنساني في استخدام لغته الأم اللغة العربية في تعليمه العلوم البحتة زمناً طويلاً، ومن العلوم أن اللسان من أهم حقوق الإنسان ومبدأ حقوق الإنسان تسعى الدول لتفعيله، وكان قدر الطالب العربي أيضاً أن يعيش صعوبة التعلم بغير لسانه العربي المبين، ولقد كان قدره كذلك أن يبقى بائساً يترجم لنفسه ممتلئاً غماً على غم فوق ثرى وطنه العربي من أقصاه إلى أقصاه جيلا بعد جيل، وما دام الطالب شريكا فاعلا في التخطيط لمستقبله في التعلم وغيره فلماذا لا يستفتى الطالب العربي وتعرف رغبته هل يرغب التعجيم أم يرغب التعليم بلسانه العربي في تعلم العلوم البحتة وغيرها لقد حرم الإنسان العربي من التمتع بلغته في المكتبة العربية، كما حرم الطالب من الاطلاع والبحث اللاصفي ومتابعة المستجدات بسبب افتقار المكتبة العربية من العلوم البحتة باللغة العربية نتيجة تقاعس الأمة العربية المزري في الترجمة ومع كل هذا فإن الباحث يستطيع أن يقول بثقة وبأمل للطالب العربي بخاصة وللإنسان العربي والباحث بعامة إن إقامة مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود لخدمة اللغة العربية جدير بأن يحقق الأمل المنشود والعزة والكرامة المبتغاة لكل طالب ولكل باحث ولكل راغب في التعلم وفي المطالعة والتزود من العلم في العلوم البحتة وغيرها، مركز الملك عبدالله لخدمة اللغة العربية مبادرة شجاعة وفعالة وموفقة جاءت في وقتها المناسب ولا يقل عنها بحال اعتماد جائزة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله السخية للترجمة إلى اللغة العربية ومنها نقول: إن هذه الجائزة مبادرة تاريخية عملاقة عميقة الأثر عميقة الجدوى، الأمة العربية أحوج ما تكون إليها في حاضرها وفي مستقبلها وبخاصة في تعليمها فحيا الله كل مبادرة بناءة وكل خطوة راشدة رائدة حكيمة.

 

الجزيرة