اللغة الشاعرة – 2

د. محمد سعيد حسب النبي

المفردات
إن جهاز النطق –كما أشار العقاد في كتابه اللغة الشاعرة- أداة موسيقية وافية، لم تحسن استخدامها على أوفاها أمة من الأمم القديمة أوالحديثة كما استخدمتها الأمة العربية، لأنها انتفعت بجميع المخارج الصوتية في تقسيم حروفها، ولم تهمل بعضها وتكرر بعضها الآخر بالتخفيف تارة والتثقيل تارة، كما فعل المتكلمون بسائر اللغات المعروفة، ومنها الهندية الجرمانية والسامية والطورانية.
وهذا الذي تكلم عنه العقاد في مقالنا السابق والذي خصص لدلالة الحروف على  السليقة الشاعرة في اللغة العربية. فإذا انتقلنا من الحروف إلى الكلمات التي تتألف منها فهذه الدلالة ظاهرة جداً كظهورها في الحروف المتفرقة أو أظهر، لأنها تضيف الموسيقية في القواعد والموسيقية في المعاني إلى الموسيقية الملحوظة في مجرد النطق أوالسماع بغير معنى يتم به التخاطب بين المتكلمين.
وحسبنا –كما يقول العقاد- أن نلاحظ في تركيب المفردات من الحروف أن الوزن هو قوام التفرقة بين أقسام الكلام في اللغة العربية، وأن اللغات السامية التي تشارك هذه اللغة في قواعد الاشتقاق لم تبلغ مبلغها في ضبط المشتقات بالموازين التي تسري على جميع أجزائها وتوفق أحسن التوفيق المستطاع بين مبانيها ومعانيها.
فالفرق بين ينظر وناظر ومنظور ونظير ونظائر ونظارة ومناظرة ومنظار ومنظر ومنتظر وما يتفرع عليها هو فرق بين أفعال وأسماء وصفات وأفراد وجموع وهو كله قائم على الفرق بين وزن ووزن، أوقياس صوتي وقياس مثله، يتوقف على اختلاف الحركات والنبرات، أي على اختلاف النغمة الموسيقية في الأداء.
وحكم الأسماء الجامدة كحكم المشتقات في هذه الخصلة، فإنها تجري جميعاً على أوزان معلومة تشملها بأقسامها على تفاوت قوتها ذهاباً مع القول القائل بأن زيادة المبنى زيادة في المعنى.
وعلى غير هذا النسق تجري أوزان الكلمات في اللغات الأخرى وأولها لغات النحت على التخصيص، فإن الكلمات فيها قد تجري على وزن واحد بغير دلالة على اتفاق في المعنى ولا في تقسيم الأسماء والأفعال والحروف، ولولا هذه المشابهة العرضية بين بعض كلماتها لكان فيها من الأوزان عداد ما فيها من الكلمات.
إن كلمات (آن وبان وتان وثان وجان وذان وران وفان ومان) توجد في اللغات الإنجليزية اتفاقاً ومنها الحروف والأفعال والأسماء، فليس بين أوزانها ومعانيها ارتباط على الإطلاق كالارتباط القياسي الذي يوجد في أوزان اللغة العربية كلها اطردت على قياس واحد، وهذا الذي نعنيه بدلالة الحركة الموسيقية في تركيب المفردات على حدة، بعد ما رأيناه من دلالة المخارج الصوتية على شاعرية اللغة في تكوين الحروف.
وقد يختلف الفعلان في قوة التعبير باختلاف الحركة بينهما كما يحدث بين قسْم وقسّم بتشديد السين، وكما يحدث بين شهد وشاهد، وبين عرف وعرّف، وبين الأفعال اللازمة والأفعال المتعدية لمفعول واحد أو لمفعولين على وجه التعميم.
وتختلف الأوزان في الجموع فتدل على الكثرة أوالقلة كما تختلف أوزان الصفات أحياناً؛ فتدل على التمكن أوالنقص في تلك الصفات، ومن أمثلتها صفات الكبير والمتكبر والمكابر والكبارة، إلى أشباه هذه الفوارق الخفية التي لا نظير لها في غير اللغة العربية.
ومن خصائص هذه اللغة البليغة في تعبيراتها أن الكلمة الواحدة تحتفظ بدلالتها الشعرية المجازية ودلالتها العلمية الواقعية في وقت واحد بغير لبس في التعبيرين.
فكلمة الفضيلة تدل بغير لبس على معنى الصفة الشريفة في الإنسان، ولكن مادة فضل بمعنى الزيادة على إطلاقها لا تفقد دلالتها الواقعية على المواد المحسوسة، بل يصح عند المتكلمين والمستمعين أن يفهموا (فضول) القول على أنه وصف غير حميد، لأن الزيادة في غير جدوى تخالف الزيادة المطلوبة إذا كان المقام مقام القول في صفات الكلام.
بل يجوز للمتكلم البليغ أن يستخدم مادة البلوغ للوصول إلى البلد أوالمكان ويستخدم مادة البلاغة والإبلاغ للوصول إلى إقناع العقول والإفضاء إليها بالأثر المنشود من المقال.
ولا يصعب الجمع بين التعبير الواقع والتعبير المجازي الشعري في مئات من الكلمات تجري على الألسنة كل يوم وتؤدي إلى السامعين معانيها النظرية الفكرية ومعانيها الحسية في وقت واحد بغير لبس بين المقصود في كل مقام. فلا لبس في قول القائل إنه (يقيد شوارد الأفكار) ولو شفعها بعد ذلك باستخدام كلمة القيد في تقييد الأسير والسجين.
ولا لبس بين الشرف بمعنى رفعة المقام وبين الشرف الذي يفهمه السامع إذا سمع عن بناء من الأبنية أنه قائم على شرف من الأرض، أو أنه مشرف على ما دونه من الأمكنة.
ولا لبس بين القلب بما يحتويه من الحدس والشعور والعاطفة وبين القلب من قلب الشيء يقلبه إذا أريد به تغيير وضعه أو موضوعه.
ولا لبس بين الموضوع بمعنى الفكرة التي نبحثها وندرسها وبين الموضوع من الوضع في مكان محسوس.
وسليقة اللغة الشاعرة هي التي تجعل السامع العربي يفهم المعنى المقصود على الأثر إذا سمع واصفاً يصف حسناء بأنها بدر على غصن فوق كثيب، لأن ذهن السامع العربي تعود النفاذ في الصورة الحسية إلى دلالتها النفسية، فهو لا يرسم في ذهنه قمراً وغصن شجرة وكومة من الرمل حين يستمع تلك العبارة، ولكنه يفهم من البدر إشراق الوجه ومن الغصن نضرة الشباب ولين الأعطاف، ومن الكثيب فراهة الجسم ودلالتها على الصحة وتناسب الأعضاء.
وإن سهولة استخلاص المجاز الشعري من الألفاظ المحسوسة لهي السليقة الشاعرة التي يحار لها أبناء اللغات المحرومة من هذه المزية؛ فيختلط الأمر على نقادهم ويحارون كيف يوفقون بين الصور التي تنقلها إليهم الألفاظ المسموعة وتبقى في أذهانهم وأخيلتهم لاصقة بأجسامها المنظورة أوالملموسة بلا فكاك من قيود المعجمات.
إن السامع العربي يسمع التمثيل المشهور في قول القائل: (رأيت أسداً في الحمام) فلا تتمثل له غير صورة البطل الشجاع كما يكون الإنسان المتصف بالبطولة والشجاعة.
وبهذه السليقة الشاعرة تتصل المفردات اللغوية بأشكالها المحسوسة أوتنفصل عنها ولا تبقى لها غير معانيها المجازية، لأنها مفردات في لغة شاعرة يعمل فيها الخيال والذوق كما تعمل فيها الأبصار والأسماع. وسنعرض المزيد خلال المقالات القادمة.