اللغة الشاعرة - 4

د. محمد سعيد حسب النبي

العروض
يشير العقاد في كتابه القيم اللغة الشاعرة إلى أن الشعر قد وجد في كل لغة من لغات القبائل البدائية والأمم المتحضرة. ولكنه لم يوجد فناً كاملاً مستقلاً عن الفنون الأخرى في غير اللغة العربية. والمقصود بالفن الكامل –كما يقول العقاد- هو الشعر الذي توافرت له شروط الوزن والقافية وتقسيمات البحور والأعاريض التي تعرف بأوزانها وأسمائها وتطّرد قواعدها في كل ما ينظم من قبيلها.
فالشعر في كثير من اللغات قد يلاحظ فيه الإيقاع ولا تلاحظ فيه القافية، ولا الأوزان المقررة، وقلما تلاحظ القافية في الأشعار التي تنشدها الجماعات، كالشعر المسرحي عند اليونان، وتراتيل الصلاة والعبادة عند العبريين.
وربما لوحظت فيه القافية على غير وزن مضطرد كما تلاحظ في الأغاني الفردية أو أغاني الرقص التي تردد فيها الجماعة كلمات قائد الفرقة الراقصة عند مواقف معينة موسومة بقوافيها أوبحروف الروي فيها.
أما الشعر الذي تلاحظ القافية والوزن وأقسام التفاعيل في جميع بحوره وأبياته فهو خاصة من خواص اللغة العربية دون غيرها من لغات العالم أجمع، ومنها اللغات السامية التي تنتمي إليها لغة الضاد.
وقد خطر لبعضهم أن هذا الفن العربي أثر من آثار المزاج السامي، لما اشتهرت به السلالات السامية من نشاط الحس وسرعة الاستجابة للمؤثرات. ولكن البحوث المشرقية منذ القرن التاسع عشر كشفت عن أوضاع الشعر عند أبناء الأمم السامية القديمة والأمم السامية التي بقيت لها بقية من الأعقاب في هذه الأزمنة، فثبت أنها جميعاً خلو من فنون العروض الملتزمة في المنظومات العربية، وأن أكثر شعرها من قبيل النثر الذي يقيمه الغناء ويصلحه للإيقاع، تارة بالمد وتارة بالقصر على غير قاعدة مضطردة، وأن الشاعر الواحد عندهم قد ينظم عشرات القصائد فلا تتفق فيها قصيدتان على وتيرة واحدة، ولا يتأتى له أن يسمي قصيدة منها باسمها وعلامات وزنها إلا أن يذكر سطراً من سطورها.
فالشعر في اللغة العبرية، وهي أشهر اللغات السامية بعد العربية، إنما هو سطور متلاحقة تعرف الصلة بينها بترديد فقرة منها، أو بتفصيل عبارة مجملة تذكر في السطر الأول وتشرحها السطور التالية، أوبالاستجابة بين الشرط والجواب وبين الصلة والموصول لتعليق المعنى المنتظر على نحو يشبه تعليق السمع بانتظار القافية.
ويشير العقاد إلى مثال واحد من أمثلة الوصايا التي وردت في كتاب العهد الجديد منسوبة للسيد المسيح عليه السلام، وهذه فقرات منها:
"اسألوا تعطوا"
"اطلبوا تجدوا"
"اقرعوا يفتح لكم"
"لأن من يسأل يأخذ، ومن يطلب يجد، ومن يقرع يفتح له الباب"
"من منكم يسأله ابنه خبزاً فيعطيه حجراً"
"ومن منكم يسأله سمكة فيعطيه حية"
"أو يسأله بيضة فيعطيه عقرباً"
"فإذا كنتم وأنتم أشرار تحسنون العطاء، فكيف بالمنعم الذي في السماء"
ويقول العقاد أن كل ما ورد في كتب العهد القديم والعهد الجديد من التراتيل والأناشيد فهو على أسلوب كهذا الأسلوب، يتردد فيه الإيقاع بغير وزن وبغير قافية، ويعتمدون فيه على حركات الغناء ولا يستقل فيه الشعر بأوزانه المقسمة وقوافيه الملتزمة وعلاماته التي يجمعها فن العروض، وتقبل التجديد والتنويع تقريباً على هذه الأصول إلى غير انتهاء.
فالعرب لم يبدعوا فن الشعر لأنهم سلالة سامية، ولم يبدعوا لأنهم سلكوا فيه مسلك الأمم الأخرى مبتكرين أومقلدين، ولكنهم تفردوا بفنهم الذي لا نظير له بين أمم العالم لأسباب كثيرة كما يقول العقاد.
ويضيف، وأما السبب الذي نحسبه عماد هذه الأسباب جميعاً في اختصاص الشعر العربي بفنون الوزن والقافية فهو الحداء. إن الحداء غناء منفرد موقع على نغمة ثابتة وهي حركة الجمل في حالتي الإسراع والإبطاء.
ولابد للغناء المفرد من القافية، لأنها هي التي تنبه السامع إلى المقاطع والنهايات خلافاً للغناء المجتمع الذي يترك فيه الكثيرون فيعرفون من سياقه أين يكون الوقوف، وأين يكون الاسترسال.
ولابد للغناء الملازم لحركة واحدة من اضطراد الحركة ومجاراتها في إيقاعها، وبخاصة حين تكون الحركة الطبيعية نمطاً لا يقع فيه الخطأ والاختلاف، كحركة الإبل في السرعة والإبطاء، فإنها لا تجري على صناعة تتفاوت في الإتقان، ولكنها تنساق إليها بالفطرة وتعود إليها فتعيدها بجميع أجزائها.
ومن المشاهد أن هذا المطبوع كان قدوة للفنون المصنوعة في نظم الشعر بين أبناء اللغات السامية، فإن شعراء الفرس اقتبسوا أوزان العروض العربية وفضلوها على الأوزان التي اخترعها لهم الموسيقيون، مع قدم الآلات الموسيقية عندهم، وطول العهد في حضارتهم قبل الإسلام بعدة قرون.
وكذلك اقتبس شعراء اللغة العبرية أوزان العروض العربية بعد اتصالهم بالعرب والمغرب، ولم يكن للعبريين شعر موزون قبل ذلك.
على أن كلمة (الشعر) مع تحريفاتها الكثيرة ترجع في اللغات السامية إلى أصلها العربي كما يرى الثقات من اللغويين المحدثين، فكلمة (شيرو) في الأكدية القديمة تدل على هتاف الأناشيد في الهياكل، ومنها انتقلت إلى العبرية التي تأتي فيها كلمة (شير) بمعنى (نشيد) وإلى الآرمية التي تترادف فيها كلمة (شور) وكلمة الترنيم والترتيل، ويسمى كتاب نشيد الإنشاد بالعبرية (شيرهشيريم) بهذا المعنى.
وليس التحريف بعيداً في الانتقال من لفظ (شعر) إلى لفظ (شير) إذا علمنا أن حرف العين وبعض حروف الحلق سقطت من (الأكدية) قديماً كما سقطت من أكثر لغات العالم، وهو بحث فصله الأستاذ مرجي –كما يقول العقاد- في كتاب (المعجميات).
ومهما يكن من رأي في نشأة الأعاريض العربية؛ فالحقيقة التي لا محل فيها لاختلاف الآراء أن لغتنا الشاعرة قد انفردت بفن من النظم الشعري لم تتوافر شرائطه وأدواته لفن النظم في كل اللغات.