الزمن في اللغة العربية - 1

د. محمد سعيد حسب النبي


يشير العقاد في كتابه اللغة الشاعرة أن ارتقاء اللغة يعرف بمقاييس كثيرة من أهمها الدلالة على الزمن في أفعالها، ثم في سائر ألفاظها. واللغات تنشأ على نحو قريب من نشأة الكتابة على الطريقة الهيروغليفية، أي طريقة الدلالة بالأشكال المرسومة.
يعبر الكاتب مثلاً عن الكتابة فيرسم إنساناً ينقش أشكالاً على حجر أو ورق بالقلم أو الأداة المعدة للكتابة. ويدل ذلك على مجرد حدوث الفعل في غير زمن محدود. سواء كان الكاتب قد فرغ من عمله أو لا يزال يكتب أو يريد أن يكتب بعد حين. فإذا أراد أن يدل على وقت الفعل أشار إليه بعلامة مضافة، يفهم منها البعد أو الإدبار أو البعد والإقبال. أو الاستمرار والاستغراق.
وهذا الذي حدث في الكتابة قد حدث على نحو قريب منه في الكلام. مع توضيح المعنى بالإشارة واعتماد السامع المشاهدة. فلابد من علامات صوتية أو جسدية للتفرقة بين ما كان وما هو كائن ولا يزال، وما سيكون أو سوف يكون. وما هو معلق على شرط لا ينتظر أن يكون إلا في حالة معلومة.
ولهذا يظهر ارتقاء اللغة من علامات الزمن في أفعالها، فاللغة التي تدل على الزمن بعلامات مقررة في الفعل أعرق وأكمل من اللغة التي خلت من تلك العلامات، وبمقدار الدلالة تكون العراقة والارتقاء.
وقد شاع بين اللغويين المختصين بدراسة تواريخ الألسنة في الغرب، أن اللغات السامية ناقصة في دلالة الأفعال على الأزمنة، ومنها اللغة العربية، على تفاوت بينها وبين الفروع الأخرى من الأرومة المشهورة باسم اللسان السامي، أو لسان الساميين.
وربما ساغ هذا القول عن اللغة العربية –كما يقول العقاد- في عقول المتعجلين من مصدقيه، لأنهم توهموا أن هذه اللغة نشأت على صحراء خاوية لا قيمة للوقت عند أهلها، فلا جرم تخلو من التوقيت الدقيق في تمييز الأفعال والأحداث. لكنه وهم لا يثبت على نظرة محققة في التاريخ ولا في اللغة ولا نحسب –في رأي العقاد- أن لغة نفهمها أو نفهم عنها قد اشتملت على وسائل للتمييز بين الأوقات كما اشتملت عليها اللغة العربية، سواء نظرنا إلى ضرورات سكانها أونظرنا إلى تصريف أفعالها وكلماتها.
فكل لحظة من لحظات النهار والليل قد كان لها شأنها في حياة سكان البادية بين السفر والإقامة والحل والترحال. فمنها ما هو صالح لبدء المسير، وما هو صالح للراحة القصيرة، وما هو صالح للراحة الطويلة، وما ليس يصلح لغير السكينة والاستقرار.
ولهذا وجدت كلمات البكرة والضحى أو الغدوة والظهيرة والقائلة والعصر والأصيل والمغرب والعشاء والهزيع الأول من الليل. والهزيع الأوسط، والموهن، والسحر، والفجر، والشروق...ويكاد التقسيم على هذا النحو أن ينحصر بالساعات، على صعوبة التفرقة بين هذه الأوقات في كثير من اللغات الأخرى بغير الجمل أو التراكيب.
وكل موسم من مواسم السنة له شأنه في المرعى والانتجاع وطلب الماء أو التجارة أو الأمان. ولهذا وجدت أسماء المواسم والفصول جميعاً ووجدت معها ثلاثة أسماء مختلفة الدلالة على الدورة حول الشمس في مصطلح الفلكيين: في السنة وهي العام، وهي الحول، ولكل منها موضعه في التعبير.
ووجدت في اللغة كلمة اليوم والنهار والليل، ولم تنقسم إلى يوم وليل دون تفرقة بين معنى اليوم ومعنى النهار. بل لهذا وجدت للأوقات كلمات مختلفة على حسب الطول والقصر في المدة، فالمدة شاملة لجميع المقادير من امتداد الزمن، وتنطوي فيها اللحظة أو اللمحة للوقت القصير. والبرهة والردح للوقت الطويل. والفترة للمدة المعترضة بين وقتين، بل وجد فيها الحين للزمن المقصود المعين، والعهد للزمن المعهود المقترن بمناسباته والزمن للدلالة على جنس الوقت كيفما كان والدهر للمدة المحيطة بجميع الأزمنة والعهود والأحيان.
مثل هذا الإحساس بالزمن لا تصوره الكلمات في لغة من اللغات التي نفهمها، أو نفهم عنها، على صورة أدق من هذه الصورة ولا أدل على الفوارق بين أجزائها: ولا غرابة في ذلك لو أراد الباحثون أن يلتمسوا السبب الذي يبطل العجب، فإن الزمن الماضي (مهم) عند أبناء البادية العربية في كل عهد من عهوده، لأنه مستودع المفاخر والأنساب والثارات والسوابق والذكريات، وليس من المصادفة أن يسمى التاريخ هنا باسم الأيام، وأن يعرف لكل يوم أثره فيما كان وما يكون.
أما الزمن الحاضر فلا غرابة في العناية بأجزائه وتقسيماته، لأن كل لحظة منه ذات شأن في الحركة والإقامة، وفي المرعى والتجارة، وفي الحرب والأمان. وليس من الطبيعي أن يبلغ إحساس قوم بالوقت هذا المبلغ ثم يخلو كلامهم من الدلالة على الإحساس به في مختلف مواضعه ومناسباته.
والواقع أن اللغة العربية تستوفي هذه الدلالة بأسلوبيها المعروفين في اللغات، ونعني بهذين الأسلوبين –كما يقول العقاد- أسلوب الكلمات المستفادة من التصريف والاشتقاق أو من الأدوات المصطلح على تخصيصها لمعانيها، وأسلوب التعبيرات التي تدخل في عداد الجمل والتراكيب.
ومن الأسلوب الأول الصيغ التي تأتي من تصريف الفعل للدلالة على المستقبل الإنشائي كفعل الأمر، فإنه في اللغة العربية مخصص بصيغتين لهذا المعنى بغير لبس في الزمن ولا في الفاعل، فيقول العربي اكتب. ويفهم من ذلك أن الكتابة مطلوبة للمستقبل غير حاصلة حتماً، فإذا عبر المتكلم بالإنجليزية عن هذا الفعل فترجمة (اكتب) فيها كلمة Write وهي تدل على مجرد الكتابة بغير زمن محدود، ولا تخصص لمعنى الأمر إلا إذا قيل Do Write أو You should write ويندر في اللغات الغربية ما يشتمل على تخصيص أدق من هذا التعميم.