الأدب والأديب - 1

د. محمد سعيد حسب النبي


كتب مصطفى صادق الرافعي كتاباً رائعاً بعنوان: "وحي القلم" عرض فيه موضوعات شتى في الأدب والدين والفلسفة وغيرها من المجالات الإنسانية وذلك بأسلوب شائق وبلاغة مبدعة عُرف بها الرافعي. ومن الموضوعات التي تستحق القراءة الواعية ما كتبه عن الأدب والأديب، معتبراً أن أشواق النفس هي مادة الأدب، وأن الأديب هو الإنسان الكوني، يُدلّه الجمال على نفسه ليدل غيره عليه. وإني لأدعو القارئ في هذه السلسلة من المقالات أن يقرأ بدقة ما كتبه المبدع الكبير مصطفى صادق الرافعي عن الأدب والأديب.
يقول الرافعي: إذا اعتبرت الخيال في الذكاء الإنساني وأوليته النظر وحسن التمييز، لم تجده في الحقيقة إلا تقليداً من النفس للألوهية بوسائل عاجزة منقطعة، قادرة على التصور والوهم بمقدار عجزها عن الإيجاد والتحقيق. وهذه النفس البشرية الآتية من المجهول في أول حياتها، والراجعة إليه آخر حياتها، والمسددة في طريقه مدة حياتها، لا يمكن أن يتقرر في خيالها أن الشيء الموجود قد انتهى بوجوده، ولا ترضى طبيعتها بما ينتهي، فهي لا تتعاطى الموجود فيما بينها وبين خيالها على أنه قد فرغ منه فما يُبدأ وتمَّ فما يُزاد، وخلد فلا يتحول، بل لا تزال تضرب ظنها وتصرف وهمها في كل ما تراه أو يتلجلج في خاطرها، فلا تبرح تتلمح في كل وجود غيباً، وتكشف من الغامض وتزيد في غموضه، وتجري دأباً على مجاريها الخيالية التي توثق صلتها بالمجهول، فمن ثم لابد في أمرها مع الموجود مما لا وجود له، تتعلق به وتسكن إليه، وعلى ذلك لابد في كل شيء –مع المعاني التي له في الحق- من المعاني التي له في الخيال، وها هنا موضع الأدب والبيان في طبيعة الإنسانية، فكلاهما طبيعي فيها كما ترى.
وإذا قيل الأدب، فاعلم أنه لابد معه من البيان، لأن النفس تخلق فتصور فتحسن الصورة، وإنما يكون تمام التركيب في معرضه وجمال صورته ودقة لمحاته، بل ينزل البيان من المعنى الذي يلبسه منزلة النضج من الثمرة الحلوة إذا كانت الثمرة وحدها قبل النضج شيئاً مسمى أو متميزاً بنفسه، فلن تكون بغير النضج شيئاً تاماً ولا صحيحاً، وما بُدٌّ من أن تستوفي كمال عمرها الأخضر الذي هو بيانها وبلاغتها.
وهذه مسألة كيفما تناولتها فهي هي حتى تمضيها على هذا الوجه الذي رأيت في الثمرة ونضجها، فإن البيان صناعة الجمال في شيء جماله هو من فائدته، وفائدته من جماله، فإذا خلا من هذه الصناعة التحق بغيره، وعاد باباً من الاستعمال بعدد أن كان باباً من التأثير، وصار الفرق بين حاليه كالفرق بين الفاكهة إذ هي باب من النبات، وبين الفاكهة إذ هي باب من الخمر، ولهذا كان الأصل في الأدب البيان والأسلوب في جميع لغات الفكر الإنساني، لأنه كذلك في طبيعة النفس الإنسانية.
فالغرض الأول للأدب المبين أن يخلق للنفس دنيا المعاني الملائمة لتلك النزعة الثابتة فيها إلى المجهول وإلى مجاز الحقيقة، وأن يلقى الأسرار في الأمور المكشوفة بما يتخيل فيها، ويرد القليل من الحياة كثيراً وافياً بما يضاعف من معانيه، ويترك الماضي منها ثابتاً قاراً بما يخلد من وصفه، ويجعل المؤلم منها لذاً خفيفاً بما يبث فيه من العاطفة، والمملول ممتعاً حُلواً بما يكشف فيه من الجمال والحكمة، ومدار ذلك كله على إيتاء النفس لذة المجهول التي هي في نفسها لذة مجهولة أيضاً، فإن هذه النفس طلعة متقلبة، لا تبتغي مجهولاً صرفاً ولا معلوماً صرفاً، كأنها مدركة بفطرتها أن ليس في الكون صريح مطلق ولا خفي مطلق، وإنما تبتغي حالة ملائمة بين هذين، يثور فيها قلق أو يكون منها قلق.
وأشواق النفس هي مادة الأدب، فليس يكون أدباً إلا إذا وضع المعنى في الحياة التي ليس لها معنى، أو كان متصلاً بسر هذه الحياة فيكشف عنه أو يومئ إليه من قريب، أوغير للنفس هذه الحياة تغييراً يجيء طباقاً لغرضها وأشواقها. فإنه كما يرحل الإنسان من جو إلى جو غيره، ينقله الأدب من حياته التي لا تختلف إلى حياة أخرى، فيها شعورها ولذتها وإن لم يكن لها مكان ولا زمان، حياة كملت فيها أشواق النفس، لأن فيها اللذات والآلام بغير ضرورات ولا تكاليف، ولعمري ما جاءت الجنة والنار في الأديان عبثاً، فإن خالق النفس بما ركبه فيها من العجائب، لا يحكم العقل أنه قد أتم خلقها إلا بخلق الجنة والنار معها، إذ هما الصورتان الدائمتان المتكافئتان لأشواقها الخالدة إن هي استقامت مسددة أو انعكست حائلة.
وقد صح عندي أن النفس لا تتحقق من حريتها ولا تنطلق انطلاقتها الخالدة فتحس وحدة الشعور ووحدة الكمال الأسمى –إلا في ساعات وفترات تنسل فيها من زمنها وعيشها ونقائضها واضطرابها إلى (منطقة حياد) خارجة وراء الزمان والمكان، فإذا هبطتها النفس فكأنما انتقلت إلى الجنة واستروجت الخلد، وهذه المنطقة السحرية لا تكون إلا في أربعة: حبيب فاتن معشوق أُعطي قوة سحر النفس، فهي تنسى به، وصديق محبوب وفي أوتيَ قوة جذب النفس، فهي تنسى عنده، وقطعة أدبية آخذة، فهي ساحرة كالحبيب أو جاذبة كالصديق، ومنظر فني رائع، ففيه من كل شيء شيء.
وهذه كلها تُنسي المرء زمنه مدة تطور وتقصر، وذلك دليل على أن النفس الإنسانية تُصيب منها أساليب روحية لاتصالها هنيهة بالروح الأزلي في لحظات من الشعور كأنها ليست من هذه الدنيا وكأنها من الأزلية، ومن ثم تستطيع أن نقرر أن أساس الفن على الإطلاق هو ثورة الخالد في الإنسان الفاني فيه، وأن تصوير هذه الثورة في أوهامها وحقائقها بمثل اختلاجاتها في الشعور والـتأثير –هو معنى الأدب وأسلوبه.
ثم إن الاتساق والخير والحق والجمال- وهي التي تجعل للحياة الإنسانية أسرارها- أمور غير طبيعية في عالم يقوم على الاضطراب والأثرة والنزاع والشهوات، فمن ذلك يأتي الشاعر والأديب وذو الفن علاجاً من حكمة الحياة للخياة، فيبدعون لتلك الصفات الإنسانية الجميلة عالمها الذي تكون طبيعية فيه، وهو عالم أركانه الاتساق في المعاني لتي يجري فيها، والجمال في التعبير الذي يتأدى به، والحق في الفكر الذي يقوم عليه، والخير في الغرض الذي يساق له، ويكون الأدب من النقص والكمال بحسب ما يجتمع له من هذه الأربعة، ولا معيار أدق منها إن ذهبت تعتبره بالنظر والرأي، ففي عمل الأديب تخرج الحقيقة مضافاً إليها الفن، ويجيء التعبير مزيداً فيه الجمال، وتتمثل الطبيعة الجامدة خارجة من نفس حية، ويظهر الكلام وفيه رقة حياة القلب وحرارتها وشعورها وانتظامها ودقها الموسيقى، وتلبس الشهوات الإنسانية شكلها المهذب لتكون بسبب من تقرير المثل الأعلى، الذي هو السر في ثورة الخالد من الإنسان على الفاني، والذي هو الغاية الأخيرة من الأدب والفن معاً، وبهذا يهب لك الأدب تلك القوة الغامضة التي تتسع بك حتى تشعر بالدنيا وأحداثها مارة من خلال نفسك، وتحس الأشياء كأنها انتقلت إلى ذاتك من ذواتها، وذلك سر الأديب العبقري، فإنه لا يرى الرأي بالاعتقاب والاجتهاد كما يراه الناس، وإنما يحس به، فلا يقع له رأيه بالفكر، بل يلهمه إلهاماً، وليس يؤاتيهافلهام إلا من كون الأشياء تمر فيه بمعانيها وتعبره كما تعبر السفن النهر، فيحس أثرها فيه فيلهم ما يلهم، ويحسه الناس نافذاً بفكره من خلال الكون، على حين أن حقائق الكون هي النافذة من خلاله.