فصاحة القرآن للباقلاني

د. محمد سعيد حسب النبي


هو القاضي أبو بكر محمد بن الطيب كان معروفاً بالجدل وقوة الحجة ورسوخ القدم في علم الكلام والبراعة والتفوق في الفصاحة والبيان، ومن قرأ كتابه إعجاز القرآن ظن أنه يقرأ أسلوب الأدباء المعربين لا المتكلمين المعجمين. كتب في فصاحة القرآن فأشار إلى أن نظم القرآن على تصرف وجوهه واختلاف مذاهبه خارج عن المعهود من نظام كلام العرب، ومباين المألوف من ترتيب خطابهم، وله أسلوب يختص به ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد وذلك أن الطرق التي يتقيد بها الكلام البديع المنظوم تنقسم إلى أعاريض الشعر على اختلاف أنواعه ثم إلى أنواع الكلام الموزون غير المقفى ثم إلى أصناف الكلام المعدل غير المسجع ثم إلى معدل موزون غير مسجع ثم إلى ما يرسل إرسالاً فيطلب فيه الإصابة والإفادة وإفهام المعاني المعترضة على وجه بديع وترتيب لطيف وإن لم يكن معتدلاً في وزنه وذلك شبيه بجملة الكلام الذي لا يتعمل ولا يتصنع له.
والقرآن خارج عن هذه الوجوه ومباين لهذه الطرق فضلاً عن أنه ليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة والغرابة والتصرف البديع والمعاني اللطيفة والفوائد الغزيرة والحكمة  الكثيرة والتناسب في البلاغة والتشابه في البراعة على هذا الطول وعلى هذا القدر وإنما تنسب إلى حكيمهم كلمات معدودة وألفاظ قليلة، وإلى شاعرهم قصائد محصورة يقع فيها أحياناً الاختلال والاختلاف والتعمل والتكلف والتجوز والتعسف، وقد حصل القرآن على كثرته وطوله متناسباً في الفصاحة على ما وصفه الله تعالى به فقال: "الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً" ذلك إلى ما تراه من أن عجيب نظمه وبديع تأليفه لا يتفاوت ولا يتباين على ما يتصرف إليه من الوجوه التي يتصرف إليها من ذكر قصص ومواعظ واحتجاج وحكم وأحكام وأعذار وإنذار ووعد ووعيد وتبشير وتخويف وأوصاف وتعليم أخلاق كريمة وشيم رفيعة وسير مأثورة وغير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها ونجد كلام البليغ الكامل والشاعر المفلق والخطيب المصقع يختلف على حسب اختلاف هذه الأمور؛ فمن الشعراء من يجوّد في المدح ومنهم من يسبق في التقريظ دون التأبين، ومنهم من يجوّد في التأبين دون التقريظ، ومنهم من يُغرب في وصف الإبل أو الخيل أو سير الليل أو وصف الحرب أو وصف الروض أو وصف الخمر أو الغزل أو غير ذلك مما يشمل عليه الشعر ويتداوله الكلام، ولذلك ضُرب المثل بامرئ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب، وهم قوم لا خلاف في تقدمهم في صنعة الشعر، ولاشك في تبريزهم في مذهب النظم.
ومتى تأملت شعر الشاعر البليغ رأيت التفاوت في شعره على حسب الأحوال التي يتصرف فيها؛ فيأتي بالغاية في البراعة في معنى، فإذا جاء إلى غيره قصر عنه، ووقف دونه وبان الاختلاف في شعره، ثم نجد في الشعراء من يجوّد في الرجز ولا يمكنه نظم القصيد أصلاً، ومنهم من ينظم القصيد ولكنه يقصر فيه مهما تكلفه أو تعمله، ونجد من الناس من يجوّد في الكلام المرسل فإذا أتى بالموزون قصّر ونقص نقصاناً عجيباً، ومنهم من هو على الضد من ذلك.
وقد تأملنا نظم القرآن فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه التي ذكرناها على حد واحد في حسن النظم وبديع التأليف لا تفاوت فيه ولا انحطاط على المنزلة العليا ولا إسفال فيه إلى الرتبة الدنيا. وكذلك قد تأملنا ما تتصرف إليه وجوه الخطاب من الآيات الطويلة والقصيرة، فرأينا الإعجاز في جميعها على حد واحد لا يختلف. وهناك شيء آخر هو خير ما يؤتى به للدلالة على بلوغ الفصاحة في القرآن منزلة الإعجاز وهو ورود تلك المعاني الغريبة التي يتضمنها في أصل الشريعة والأحكام والاحتجاجات في أصل الدين، والرد على الملحدين بهذه الأساليب البديعة وموافقة بعضها بعضاً في اللطف والبراعة مما يتعذر على العرب مجاراته فيه لأنها معانٍ غريبة غير مطروقة، وقد عُلم أن تخير الألفاظ للمعاني المتداولة المألوفة والأسباب الدائرة بين الناس أسهل وأقرب من تخير الألفاظ لمعان مبتكرة وأسباب مؤسسة مستحدثة، وبراعة اللفظ في المعنى البارع أعجب من براعته في المعنى المتداول المتكرر.
وللقرآن مزية أخرى غير ما تقدم وهي أنه من المقرر المعروف أن الكلام يبين فضله ورجحان فصاحته بأن تُذكر منه الكلمة في تضاعيف كلام أو تُقذف ما ين شعر فتأخذه الأسماع وتتشوف إليه النفوس، ويُرى وجه رونقه بادياً غامراً سائر ما يقرن به كالدرة التي ترى في سلك من خرز وكالياقوتة وسط العقد وأنت ترى الكلمة من القرآن يُتمثل بها في تضاعيف كلام كثير فإذا هي غُرة جميعه وواسطة عقده والمنادى على نفسه بتميزه وتخصصه برونقه وجماله وانفراده.
وبعد، فإنك تجد في كتاب الله الحكمة وفصل الخطاب مجلوة عليك في منظر بهيج ومعرض رشيق ونظم أنيق غير متعاصٍ على الأسماع ولا ملتوٍ على الأفهام ولا مستكره في اللفظ يمرُ كما يمر السهم، ويضيء كما يضيء الفجر، ويزخر كما يزخر البحر، طموح العباب، جموح على الطارق المنتاب، كالروح في البدن، والنور المسطر في الأفق، والغيث الشامل والضياء الباهر لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.