وقفات على أبواب القوافي - 4

أ.د. محمد عبد الله سليمان


نقف هذه المرة مع بيت للشاعر ابن قيس الرقيات من مجزوء الكامل :
ويَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلاَكَ      وَقَدْ كِبَرْتَ فقُلْتِ إِنَّهْ
هو عبيد الله بن قيس، أحد بني عامر بن لؤي، ولد بمكة في العقد الثالث للهجرة ، وتحول عنها إلى المدينة ، أحد الشعراء المجيدين. كان زبيري الهوى ، ومفاخرا بقريش ، كان من أكثر الحجازيين عناية بالأوزان المجزوءة ، والأخرى القصيرة وهو من هذه الناحية يطبع شعره بطوابع الغناء التي عاصرته إذ نجد عنده حلاوة النغم وخفة الأوزان . واختلفوا في سبب نعته بالرقيات. والأرجح أنه كان يشبب بغير فتاة تسمى رقية منهن رقية بنت عبد الواحد بن أبي سعد بن قيس بن وهب بن أهبان بن ضباب بن حجير بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي، وابنة عم لها يقال لها رقية، وامرأة من بني أمية يقال لها رقية. وكان هواه في رقية بنت عبد الواحد. يقول ابن الرقيات :
رُقَىَّ بعيشكمْ لا تَصْرِمينا    ومنّينا المنى ثم امطلينا
عدينا من غدٍ ما شئتِ إنّا   نحبّ وإن مطلتِ الواعدينا
ويقول :
رُقَيَّةُ تَيَّمَت قَلبي       فَواكَبِدي مِنَ الحُبِّ
وَقالوا داؤُهُ طِبٌّ       أَلا بَل حُبُّها طِبّي
توفي عبيد الله في حدود الثمانين للهجرة.

وشرح البغدادي صاحب خزانة الأدب البيتين :
بَكَرَتْ عليَّ عواذِلي         يَلْحَيْنَنِي وأَلومُهُنَّهْ
ويَقُلْنَ شَيْبٌ قدْ علاّ    كَ وقد كَبِرْتَ فقلتُ إنَّهْ
بكر : جاء بكرة هذا أصله ثم استعمل في كل وقت . والعواذل : جمع عاذلة .  ورواه صاحب الصحاح : قال ابن السيرافي : يلحينني : يلمنني على اللهو والغزل . وألومهن على لومهن لي ويقلن : قد شبت وكبرت فقلت : نعم .  يريد أنه يأتي ما يأتي على علمٍ منه بأمر نفسه .
كما تناول العلماء البيت كشاهد نحوي جاء في الكتاب لسيبويه : وأما قول العرب في الجواب إنَّه فهو بمنزلة أجل وإذا وصلت قلت إنَّ يا فتى وهي التي بمنزلة أجل قال الشاعر :
بَكَرَتْ عليَّ عواذِلي         يَلْحَيْنَنِي وأَلومُهُنَّهْ
ويَقُلْنَ شَيْبٌ قدْ علاّ    كَ وقد كَبِرْتَ فقلتُ إنَّهْ
يقول ابن منظور في لسان العرب :إنَّ حرف تأْكيد وقوله عز وجل إنَّ هذانِ لساحِران أَخبر أَبو علي أَن أَبا إسحق ذهب فيه إلى أَنَّ إنَّ هنا بمعنى نَعَمْ وهذان مرفوعٌ بالابتداء وأَنَّ اللامَ في لَساحران داخلةٌ على غير ضرورة وأَن تقديره نَعَمْ هذان هما ساحِران وحكي عن أَبي إسحق أَنه قال هذا هو الذي عندي فيه والله أَعلم قال ابن سيده وقد بيَّن أَبو عليٍّ فسادَ ذلك فغَنِينا نحن عن إيضاحه هنا وفي التهذيب وأَما قول الله عز وجل إنَّ هذان لَساحِران فإنَّ أبا إسحق النحوي اسْتَقْصى ما قال فيه النحويون فحَكَيْت كلامه قال قرأَ المدنيُّون والكوفيون إلا عاصماً إنَّ هذان لَساحِران وروي عن عاصم أَنه قرأَ إنْ هذان بتخفيف إنْ وروي عن الخليل إنْ هذان لساحِران قال وقرأَ أَبو عمرو إنّ هذين لساحران بتشديد إنّ ونصْبِ هذين قال أَبو إسحق والحجةُ في إنّ هذان لساحِران بالتشديد والرفع أَن أَبا عبيدة روى عن أَبي الخطاب أَنه لغةٌ لكنانةَ يجعلون أَلفَ الاثنين في الرفع والنصب والخفض على لفظ واحد يقولون رأَيت الزيدان وروى أَهلُ الكوفة والكسائي والفراء أَنها لغة لبني الحرث بن كعب قال وقال النحويون القُدَماء ههنا هاءٌ مضمرة المعنى إنه هذانِ لساحِران قال وقال بعضهم إنّ في معنى نعَمْ كما تقدم وأَنشدوا لابن قيس الرُّقَيَّات :
بَكَرَتْ عليَّ عواذِلي         يَلْحَيْنَنِي وأَلومُهُنَّهْ
ويَقُلْنَ شَيْبٌ قدْ علاّ    كَ وقد كَبِرْتَ فقلتُ إنَّهْ
أَي إنه قد كان كما تَقُلْن قال أَبو عبيد وهذا اختصارٌ من كلام العرب يُكتفى منه بالضمير لأَنه قد عُلِم معناه وقال الفراء في هذا إنهم زادوا فيها النونَ في التثنية وتركوها على حالها في الرفع والنصب والجر كما فعَلوا في الذين فقالوا الَّذِي في الرفع والنصب والجر قال فهذا جميع ما قال النحويون في الآية قال أَبو إسحق وأَجودُها عندي أَن إنّ وقعت موقع نَعَمْ وأَن اللام وَقَعتْ موقِعَها وأَنّ المعنى نعَمْ هذان لهما ساحران قال والذي يلي هذا في الجَوْدَة مذهبُ بني كنانة وبَلْحَرِث بن كعب فأَما قراءةُ أَبي عمرو فلا أُجيزُها لأَنها خلافُ المصحف قال وأَستحسن قراءةَ عاصم والخليل إنْ هذان لَساحِران وقال غيرُه العرب تجعل الكلام مختصراً ما بعْدَه على إنَّه والمراد إنه لكذلك وإنه على ما تقول قال وأَما قول الأَخفش إنَّه بمعنى نَعَمْ فإنما يُراد تأْويله ليس أَنه موضوع في اللغة لذلك قال وهذه الهاء أُدْخِلت للسكوت وفي حديث فَضالة بن شَريك أَنه لقِيَ ابنَ الزبير فقال إنّ ناقتي قد نَقِبَ خفُّها فاحْمِلْني فقال ارْقَعْها بجِلدٍ واخْصِفْها بهُلْبٍ وسِرْ بها البَرْدَين فقال فَضالةُ إنما أَتَيْتُك مُسْتَحْمِلاً لا مُسْتَوْصِفاً لا حَمَلَ الله ناقةً حمَلتْني إليك فقال ابن الزبير إنّ وراكِبَها أَي نعَمْ مع راكبها .
وذكر الزجاجي في كتابه حروف المعاني : إنَّ المشددة المكسورة لها موضعان تكون تحقيقا وصلة للقسم كقولك إن زيدا قائم  وو الله إن أخاك عالم  ، وتكون بمعنى أجل فلا تعمل شيئا كقول القائل لابن الزبير لعن الله ناقة حملتني إليك فقال إنَّ وراكبها معناه أجل  كقول الشاعر :
ويَقُلْنَ شَيْبٌ قدْ علاّ    كَ وقد كَبِرْتَ فقلتُ إنَّهْ
ويقول ابن السراج البغدادي في الأصول في النحو : الحروف كلها لك أن تقف عليها على لفظها ، فالصحيح فيها والمعتل سواء ، وقد ألحق بعضهم الهاء في الوقف لبيان الحركة فقال : إنَّه ، يريدون ( أنَّ ) ومعناها أجل ، قال الشاعر :
ويَقُلْنَ شَيْبٌ قدْ علاّ    كَ وقد كَبِرْتَ فقلتُ إنَّهْ
 وليته ، ولعله كذاك .
يبدو أن شاعرنا ابن قيس الرقيات قد استسلم للعواذل واعترف بأنه كبر وشاب رأسه ولكن جريرا قد تمرد عليهن وأنكر ذلك حين قال :
تقول العاذلات علاك شيبٌ     أهذا الشيب يمنعني مراحي
أما علقمة بن عبدة الفحل فهو صاحب خبرة وتجربه ، ويدعى أنه يعرفهن تماما حيث يقول :
فإِنْ تَسْأَلُونِي بالنِّسَاءِ فإِنَّني         بَصِيرٌ بأَدْواءِ النِّسَاءِ طَبيبُ
إِذَا شاب رأَسُ المَرْءِ أَو قَلَّ مالُه    فليس له في وُدِّهِنَّ نَصِيبُ
يُرِدْنَ ثَرَاءِ المالِ حَيْثُ عَلِمْنَهُ     وشَرْخُ الشَّبَابِ عِنْدَهُنَّ عَجيبُ
وإلى لقاء مع بيت آخر ، وشاعر آخر ، ووقفة أخرى .