انتقال اللغة من السلف إلى الخلف - 3

د. محمد سعيد حسب النبي

 

يستكمل علي عبد الواحد وافي في كتابه اللغة والمجتمع ظاهرة انتقال اللغة من السلف إلى الخلف؛ فيشير إلى عامل آخر من العوامل المهمة وهو الأخطاء السمعية التي تنشأ عن ضعف بعض الأصوات والتي تؤدي إلى سقوط هذه الأصوات في أثناء انتقال اللغة من السلف إلى الخلف و هو (قانون روسلو ومييه Rousselot-Meillet). فقد يحيط بالصوت بعض مؤثرات تعمل على ضعفه بالتدريج. فيتضاءل جرسه شيئاً فشيئاً، حتى يصل في عصر ما إلى درجة لا يكاد يتبينه السامع. فحينئذ يكون عرضة للسقوط في لغة الخلف. وذلك أن معظم الصغار في هذا العصر لا يكادون يتبينونه في نطق الكبار، فينطقون بالكلمات مجردة منه، ولا يفطن الآباء لسقوطه في لغة أولادهم للسبب نفسه الذي من أجله لم يفطن الأولاد لوجوده في لغة آبائهم.

ويرجع أكبر قسط من الفضل في توضيح هذا العامل وبيان آثاره إلى روسلو ومييه Rousselot-Meillet، ولذلك تنسب إليها نظريته. ولا يخفى ما لهذا العامل من أثر بليغ في تطور اللغة من ناحيتها الصوتية، فإليه يرجع السبب في سقوط كثير من الأصوات الواقعة في أواخر الكلمات في عدد كبير من اللغات الهندية-الأوربية الحديثة. ومن ثم نرى اختلافاً بيناً في هذه الناحية بين رسم الكلمة ونطقها في هذه اللغات. 
فكثيراً ما ترسم في آخر الكلمة زوائد لا ينطق بها في العصر الحاضر، وإن كانت تمثل أصوات الكلمة في أدوارها الأولى. ومعظم أصوات اللين المتطرفة في اللغة اللاتينية قد انقرضت في اللغات المنشعبة عنها –كما يرى وافي- ففي البروفنسية والفرنسية لم يكد يبقى شيء منها، وفي الأسبانية سقط من هذه الأصوات صوتان وهما EI. 
وإلى هذا العامل يرجع السبب كذلك فيما حدث في اللغة العربية بصدد أصوات المد القصيرة (المسماة بالحركات والتي يرمز إليها بالفتحة والكسرة والضمة) والطويلة (الألف والياء والواو) وبعض الأصوات الساكنة الواقعة في أواخر الكلمات. ففي جميع اللهجات العامية المنشعبة عن العربية قد انقرضت في النطق أصوات المد القصيرة الواقعة في أواخر الكلمات، سواء في ذلك ما كان منها علامة إعراب وما كان منها حركة بناء –فيما يرى وافي- فينطق الآن في هذه اللهجات بجميع الكلمات مسكنة الأواخر. ولعل هذا هو أكبر تغير حدث في اللغة العربية؛ فقد أتى جميع الكلمات فانتقصها من أطرافها، وجردها من علامات إعرابها الدالة على وظائفها في الجملة، وقلب قواعدها القديمة رأساً على عقب.
 وقد تضاءلت كذلك أصوات المد الطويلة الواقعة في أواخر الكلمات العربية في عامية المصريين وغيرهم، حتى كادت تنقرض تمام الانقراض، سواء في ذلك ما كان منها داخلاً في بنية الكلمة (رمى، يرمي،..إلخ) وما كان خارجاً عنها (ضربوا، ناموا..إلخ). وفي معظم اللهجات العامية المنشعبة عن العربية قد انقرض كذلك في النطق من أواخر  الكلمات التنوين ونون الأفعال الخمسة والهمزة والهاء المتطرفتان، فيقال مثلاً في عامية المصريين: محمدْ ولدْ مطيعْ، بدلاً من محمدٌ ولدٌ مطيعٌ. وغيرها من الأمثلة في اللهجات العامية.