وقفات على أبواب القوافي - 5

أ.د. محمد عبد الله سليمان

 

    نقف هذه المرة على باب الشاعر السوداني المجدد العبقري التجاني يوسف بشير ، وقد مضت على وفاته مائة وبضع سنين ، فمات عن خمس وعشرين عاما ، وقد اكتهل وما يزال على ريق الحداثة فنه ، مما جعل الأديب الشاعر الطيب السراج يقول : " التيجاني تزبَّب وهو حصرم " فلان يتزبب وهو حصرم ، مثل عربي قديم يضرب للصبيّ الذي يتشايخ ، ويضرب فيمن يتعاطى رتبة قبل أن يصل إليها ، فالتجاني تربع على قمة عرش الشعر وهو ما يزال يافعا، وظل  مثيرا للجدل ، محركا لحفيظة الأدباء والنقاد والباحثين في شعره ، إلى يومنا هذا وسيظل ، يقول :

أَنا إِن مُت فَالتَمسني في شعـ
ري  تَجدني  مدثراً  بِرقاعه

في  يَميني  يَراع  نابِغَة  الفصـ
حى وَكُلُ امرئٍ رَهين يَراعه

   فالبيت الأول مفتاحي لسبر أغوار شخصية الشاعر ، ومعرفة أبعادها فهو يختصر الطريق للباحثين ، فمن أرادني فأنا مدثر برقاع شعري ، موجود بين ثنايا عباراتي ، وأشطر قصائدي المفعمة بالغموض المحبب ، والتي لا تعطيك معانيها إلا بعد تمنع منها فبين أسطرها نجد التجاني العاشق للجمال في شتى صوره ، المولع بالطبيعة الساحرة ، والمرأة الملهمة ، والمقال لا يسع للحديث عن كل هذه التجليات ، ونكتفي بالتجاني الفيلسوف ففي قصيدته " قلب الفيلسوف " يرسم صورة لهذا الفيلسوف ويختزله في شخصه فهو فقير بسيط في ملبسه ومسكنه ، فمسكنه كوخ متواضع ، أسمى من قصر الثري الشامخ ، أما ملبسه فثياب ممزقة لا تكاد تستر جسده المنهك الناحل ، وهو يطل من جبل الأحقاب محتملا سفر الحياة متعب مكدود ، مشرد النفس لا مال ولاجاه ، ولكن في فكره أضخم الحقائق الفلسفية ، وفي جعبته أعمق التجارب الإنسانية على صغر سنه ، وفي عينيه نظرات ثاقبة جبارة تكشف أقصى العوالم :
أَطل مِن جَبَل الأَحقاب مُحتملاً
  سفر  الحَياة  عَلـى مَكدود  سَيماه

عاري المَناكب في  أَعطافِهِ  خَلق
مِــن  العِطاف  قَضى   إِلا  بَقاياه

مَنبأ  مِن سَماء  الفكر مَمسكة
عَلـــى الرِسالة  يُمناه   وَيُسراه

يَرمي  سِـواهُم  أَنظار  منفضة
أَقصى  العَوالم   مـِن  عَينيك  عَيناه

أَوفى  عَلى  الأَرض  مَأخوذاً وَطا
ف بِها مُشَرد النَفس لا مال وَلاجاه

يَطوي وَيَظمأ حَتّى ما تَبين  عَلى
ما فيهِ  مـِن حرقات  الجُوع ساقاه

يا ناصح الجَيب لَم يَعلق بِهِ وَضر
مِـن  الحَياة  وَلَم  يَأخُذ  بِنَجواه

وفلسفة التجاني الفقير المعدم أنه فوق الغنى والفقر ، وأنه لم يفكر  يوماً  في ذلك فهو لم يغن ولا يبتغي ذلك ، ولا يرغب فيه لا لعجز منه ، ولكن لأن هذا لا يشغله ولا يشكل هاجسا له  ، فله دنيا أخرى  ينعم فيها هي دنيا الفن والفكر ، فهي أسمى من دنيا المال والغنى ، وقمة فلسفته في هذا الشأن أنه عاش ينعم بفقره ويسعد به في قناعة تامة يقول في قصيدته " دنياي":
دُنياي وَهِيَ مِن الدُنيا عَلى نَفس
أَثرى مِن التبر أَو أَسمى مِن المال

وَلا غَنيت  وَما  أَبغي  وَلا رَغبت
دُنياي  في  وَفرة  مِنها  وِإِقلال 
   
وَعَشت أَنعَم في عَدمي وَيُسعدني 
  إِني تَخففت مِن إِصري وَأَثقالي

  وعودا إلى أبيات شاعرنا الأولى الموقوف عليها نجدها ذات لغة قاموسية فهو يستخدم الألفاظ بمعناها القاموسي في كل شعره ، ولا غرو في ذلك فقد كان يداوم على قراءة القاموس المحيط حتى كاد أن يحفظه .
كما أن التأثير القرآني باد على لغته في الأبيات الموقوف عليها فقد حفظه منذ نعومة أظافره فقوله : " مدثرا برقاعه " توحي لنا بالآية الكريمة  : ﴿ يا ايها المدثر  ﴾ المدثر 1 . " وكل امرئ رهين يراعه " فكأنما يقتبسها من الآية الكريمة ﴿كُلُّ ٱمْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ ﴾ الطور 21 ،  ويبدو في الأبيات عنصر المفاجأة الشعرية في قوله : "  في  يَميني  يَراع  نابِغَة  الفصـحى " – وأعتقد أنه يقصد المتنبي – فالذي يتبادر إلى الذهن أنه سيقول في الشطر الثاني وفي يساري كذا ولكنه يفاجئنا بقوله " وَكُلُ امرئٍ رَهين يَراعه " فتحدث الدهشة الشعرية .