صراع اللغات - 2

د. محمد سعيد حسب النبي

 

 

قلنا في مقال سابق أن انتصار إحدى اللغتين لا يتأتى إلا بعد أمد طويل يصل أحياناً إلى أربعة قرون، وقد يمتد إلى أكثر من ذلك. فالرومان قد أخضعوا بلاد الجول (فرنسا وما إليها) –كما أشار علي وافي- في القرن الأول الميلادي؛ ولكن لم يتم النصر للغتهم اللاتينية على اللغة السلتية التي كان يتكلم بها أهل هذه البلاد إلا حوالي القرن الرابع الميلادي. ومع ما كان للعرب من قوة الشوكة، ورقي اللغة، واتساع الحضارة، وحماية الدين، وسطوة الغالب، لم يتم النصر للغتهم على القبطية والبربرية إلا بعد أمد طويل. على أن اللغة القبطية لا تزال مستخدمة في كثير من الطقوس الدينية الأرثوذكسية، واللغات البربرية لا تزال إلى الوقت لغة محادثة لدى بعض العشائر المغربية. بل وتعد اللغة البربرية الأمازيغية لغة رسمية في المغرب و الجزائر حسب التعديل الدستوري الأخير. كما تعتبر اللغة الأمازيغية لغة وطنية في كل من مالي والنيجر. 

وغني عن البيان أن انتصاراً لا يتم إلا بعد أمد طويل وجهاد عنيف، لا يخرج المنتصر من معاركه على الحالة نفسها التي كان عليها من قبل، فاللغة التي يتم لها الغلب لا تخرج سليمة من هذا الصراع، بل إن طول احتكاكها باللغة الأخرى يجعلها تتأثر بها في كثير من مظاهرها وبخاصة في مفرداتها.
ويختلف مبلغ هذا التأثر باختلاف الأحوال، فتكثر مظاهره كلما طال أمد احتكاك اللغتين وكان النزاع بينهما عنيفاً والمقاومة قوية من جانب اللغة المقهورة؛ وتقل مظاهره كلما قصرت مدة الصراع أو خفت وطأة النزاع أو كانت المقاومة ضعيفة من جانب اللغة المغلوبة. ويعطي وافي في كتابه اللغة والمجتمع مثلاً على ذلك؛ فيشير إلى أن طول الأمد الذي استغرقه الكفاح بين لغة الإنجليز السكسون بانجلترا ولغة الفاتحين من الفرنسيين النورمانديين (الذين أغاروا على بلاد الإنجليز في القرن التاسع الميلادي واحتلوا معظم مناطق انجلترا) ولشدة المقاومة التي أبدتها اللغة النورماندية المقهورة، خرجت اللغة المنتصرة (الإنجليزية) من هذا الصراع وقد فقدت أكثر من نصف مفرداتها الأصلية واستبدلت به كلمات من اللغة النورماندية المغلوبة، واقتبست منها فضلاً عن هذا مفردات أخرى جديدة. على حين أن لغة بلاد الجول التي انتصرت عليها اللغة اللاتينية لم تترك في اللغة الغالبة أكثر من عشرين كلمة. واللغات القبطية والبربرية المغلوبة لم تكد تترك أي أثر في اللغة العربية الغالبة. وذلك لأن الصراع في هذين المثالين، على طول أمده، لم يكن عنيفاً، ولم تلق في أثنائه اللغتان الغالبتان (اللاتينية في المثال الأول والعربية في المثال الثاني) مقاومة شديدة من جانب اللغات المقهورة (لغة الجول السلتية في المثال الأول والقبطية والبربرية في المثال الثاني).
وتختلف كذلك النواحي التي يبدو فيها تأثر اللغة الغالبة باللغة المغلوبة تبعاً لاختلاف الأحوال التي تكون عليها كلتا اللغتين في أثناء اشتباكهما. ويبدو هذا التأثر بأوضح صورة في النواحي التي تكون فيها اللغة المغلوبة متفوقة على اللغة الغالبة. ولذلك تألف معظم المفردات التي أخذتها الإنجليزية (الغالبة) عن الفرنسية النورماندية (المغلوبة) من كلمات دالة على معان كلية وألفاظ تتصل بشؤون المائدة والطهي والطعام. وذلك لأن النورماندية كانت غنية في هاتين الطائفتين من المفردات على حين أن الإنجليزية كانت فقيرة فيهما كل الفقر، فعمدت إلى خصيمها المقهور واستلبته ما كان يعوزها قبل أن تجهز عليه. وإلى اقتباسها منه الألفاظ المتصلة بشؤون المائدة والطهي وألوان الطعام يرجع السبب في أسلوبها الغريب في تسمية الحيوانات المأكولة اللحم، فكثير من هذه الحيوانات يطلق على كل منها في الإنجليزية اسمان: اسم جرماني الأصل يطلق على الحيوان ما دام حياً، واسم آخر فرنسي الأصل يطلق عليه بعد ذبحه وإعداده للمائدة.
والألفاظ الأصيلة للغة الغالبة ينالها كثير من التحريف في ألسنة المحدثين من الناطقين بها (المغلوبين لغوياً) فتبعد لذلك في أصولها ودلالاتها وأساليب نطقها عن صورتها الأولى. ويبلغ بعدها هذا أقصى درجاته إذا كانت اللغة المقهورة من فصيلة أخرى غير فصيلة اللغة الغالبة كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
والألفاظ الدخيلة التي تقتبسها اللغة الغالبة من اللغة المغلوبة ينالها كذلك كثير من التحريف في أصواتها ودلالاتها وطريقة نطقها، فتبعد في جميع هذه النواحي عن صورتها القديمة. وليست هذه الظاهرة مقصورة على الاقتباس الناشئ عن الصراع بين لغتين كتب لأحدهما النصر، بل هذه ظاهرة عامة تتحقق في جميع الحالات التي يحدث فيها انتقال مفرد من لغة إلى أخرى، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
وتقطع اللغة المغلوبة في سبيل انقراضها مراحل كثيرة تمتاز كل مرحلة منها بمظهر خاص من مظاهر الانحلال وضعف المقاومة. ففي المرحلة الأولى تقذفها اللغة الغالبة بطائفة كبيرة من مفرداتها، فتوهن بذلك متنها الأصلي، وتجرده من كثير من مقوماته. ولكن اللغة المغلوبة تظل طوال هذه المرحلة محتفظة بقواعدها ومخارج حروفها وأساليبها في نطق الكلمات: فيؤلف أهلها عباراتهم ويصرفون مفرداتهم وفقاً لقواعدهم المتعلقة بترتيب أجزاء الجملة وتصريف المفردات Syntax& Morphology وينطقون بألفاظهم الأصيلة وما انتقل إليهم من ألفاظ دخيلة طبقاً لأسلوبهم الصوتي ومخارج حروفهم، وحتى أنهم ليستبدلون في الكلمات الدخيلة بالحروف التي لا يوجد لها نظير لديهم حروفاً قريبة منها من حروف لغتهم. وفي المرحلة التالية تتسرب إلى اللغة المغلوبة أصوات اللغة الغالبة ومخارج حروفها وأساليبها في نطق الكلمات. فينطق أهل اللغة المغلوبة بألفاظهم الأصيلة وما انتقل إليهم من ألفاظ دخيلة من المخارج نفسها وبالطريقة نفسها التي يسير  عليها النطق في اللغة الغالبة. فيزداد بذلك ضعف اللغة المغلوبة ويؤذن نجمها بالأفول. ولكنها تظل طوال هذه المرحلة مستبسلة في الدفاع عن قواعدها المتعلقة بترتيب أجزاء الجملة وتصريف مفردات قواعد النحو والصرف Syntax& Morphology وفي مقاومة قواعد اللغة الغالبة. فيركب أهلها جملهم ويصرفون كلماتهم وفق أساليبهم الأولى. وفي هذه المرحلة الأخيرة تضعف هذه المقاومة شيئاً فشيئاً فتأخذ قواعد اللغة الغالبة في الاستيلاء على الألسنة حتى يتم لها الظفر، فيتم بذلك الإجهاز على اللغة المغلوبة.