شواعر السودان - 2

أ.د. محمد عبد الله سليمان


الشاعرة بنونة بنت المك نمر:

المرأة السودانية الشاعرة في تاريخها القديم والحديث هي التي تشعل في الرجال روح الحماس ، وتحرضهم على القتال وتقف من خلفهم في ميادين المعارك حتى يحققوا النصر المبين وتأبى لهم أن يموتوا حتف أنوفهم بل تحضهم على الموت في ميدان المعركة دفاعاً عن العقيدة والأرض والعرض  فها هي الشاعرة بنونة بنت المك نمر ترثى أخاها عمارة الذي كان فارساً مغواراً لا يشق غباره ، خاض غمار المعارك ، وخبر ميادين القتال ولكن قدّر الله له الموت على فراشه ، وكانت تمنى نفسها أن تشهده صريعا مجندلا في ميدان المعركة متوشحاً بدمائه تقول في قصيدتها المشهورة في تراثنا السوداني: 
ماهـو الفافنوس ماهو الغليد البوص

ود المك عريس خيلا بِجن عركـوس

أحىً علــي سيفو البحِد الــروس

ما دايرالك الميتة أم رمــاداً شَــح

دايراك يــوم لِقـا بدمِيكَ تتوشــح

الميت مسولـب والعجــاج يكتــح

أحــىً علـى سيفو البسوى التـح

اٍن وردَن بجيك في أول الواردات

مِرنا مونشيــط اٍن قَبلَن شــاردات

أسد بيشة المكرمد قمزاتو مطابقـات

وبٍرضع في ضرايع العُنًز الفــاردات

كوفِيتك الخـودة أم عصـا بــولاد

ودرعك في أم لهيب زي الشمس وقًاد

وسيفك من سقايتو اٍستعجب الحـداد

وقارحك غير شكال مابقربو الشـداد

يا جـرعة عَقُـــود السَـــــم

يا مقنع بنات جعل العُزاز مــن جم

الخيل عــركسن ما قال عِدادِن كـم

فرتاك حافِلِــن مــلاي سروجِن دم

أولاً - اللغة :
استوقفتني في هذه القصيدة اللغة وفصاحتها حيث جمعت الشاعرة بين اللغة المعجمية الفصيحة ، واللهجة العامية الدارجة ، فرجعت ببعض ألفاظ القصيدة إلى المعاجم فوجدتها قد استعملتها كما وردت معانيها في المعاجم العربية القديمة ، وذلك يدل على سليقة لغوية سليمة ، وتعمق فطري متمكن في جذور اللغة العربية ، مما يؤكد على أن العامية السودانية أصولها عربية محضة ، ومن هذه الألفاظ (عركس) في قولها : الخيل عــركسن ما قال عِدادِن كـم . حيث يقول ابن منظور في لسان العرب في مادة عركس والاعْرِنكاس: الاجتماع. يقال: عَرْكَسْتُ الشيءَ إذا جمعت بعضه على بعض. واعْرَنْكَسَ الشيءُ إذا اجتمع بعضُه على بعض؛ قال العجاج:
واعْرَنْكَسَتْ أَهْوالُه واعْرَنْكَسَا
ومن ذلك قولها: 
وبٍرضع في ضرايع العُنًز الفــاردات
 يقول الخليل بن أحمد الفراهيدي  في مُعجم العين " العَنْزُ: الأُنثى من المَعَز ومن الأوعال والظِّباء". وهنا تكمن حلاوة اللغة ، وجودة السبك ، وقوة الصياغة ، حيث وصفت (العُنَّز بالفاردات) والأخيرة معجمية صرفة يقول الزمخشري في أساس البلاغة هذا شيء فرد وفارد وفريد. وفي الحديث: "لا تمنع سارحتكم ولا تعد فاردتكم" وهي التي أفردتها عن الغنم تحتلبها في بيتك. وظبية فارد: منقطعة عن القطيع. وهو فارد بهذا الأمر أي منفرد به. 
أسد بيشة المكرمد قمزاتو مطابقـات
بيشة  مكان أشتهر بالأسود في جزيرة العرب يقول الزبيدي صاحب مُعجم تاج العروس : " وبِيشَةُ -: وَادٍ بِطَريقِ اليَمَامَةِ مَأْسَدَةٌ "وقد شبه حسان رضي الله عنه الصحابة بأنهم أسود بيشة في شجاعتهم وقوتهم  ، يقول : 
كأنّهم في الوغى والموت مكتنعٌ         أسود بيشة في أرساغها فدع 
وكلمة كرمد التي انفرد بها الزبيدي في تاج العروس: " كَرْمَدَ في آثارِهِم، أَهمله الجوهريّ وصاحب اللسان، وقال الصاغانيّ: إِذا عَدَا ". فاستخدمت الشاعرة كلمة كرمد بمعنى عَدَا.
أما القارح في قولها : وقارحك غير شكال مابقربو الشـداد ، فقد جاء في لسان العرب قال الأَصمعي: الفادِرُ من الوُعول الذي قد أَسَنَّ بمنزلة القارِح من الخيل والبازِل من الإِبل ومن البقر والغنم . وورد في خزانة الأدب للبغدادي. القارح : وهو من الخيل الذي بلغ أقصى أسنانه.
وجاء في الصحاح ، للجوهري ، قال ابن دريد: والشِكالُ: العقالُ، والجمع شُكُلٌ. الأصمعي: الشِكالُ حبْل يُجْعَلْ بين التَصدير والحَقَبُ، كي لا يدنُوَ الحقَب من الثيلِ. وهو الزِوارُ أيضاً. ويقال أيضاً: بالفرسِ شِكالٌ، وهو أن تكون ثلاث قوائم مُحَجَّلَةً وواحدة مُطْلَقَةً؛ شُبِّهَ بالشكالِ، وهو العقال. أو تكون الثلاثُ مُطلقةً ورجلٌ محجَّلة. قال أبو عبيد: وليس يكون الشِكال إلا في الرِجل، ولا يكون في اليد. . والفرسُ مَشْكولٌ.
فرتاك حافِلِــن مــلاى سروجِن دم
كلمة فرتك انفرد بها ابن منظور في لسان العرب "فَرْتَك عَمَله: أَفسده، يكون ذلك في النسج وغيره. وفي النوادر: بَرْتَكْتُ الشيءَ بَرْتَكَةً وفَرْتَكْتُه فَرْتَكَةً وكَرْنَفْتُه إذا قطَعْته مثل الذرّ". ولعل الشاعرة لم تبعد كثيرا عن هذا المعنى بل تدور في فلكه فاستعملتها بمعنى شَتَتَهُم أو أفسد تجمعهم . قال الجوهري في الصحاح : حَفَلَ القومُ واحْتَفَلوا، أي اجتمعوا واحتشدوا. وعنده حَفْلٌ من الناس، أي جَمْعٌ، وهو في الأصل مصدرٌ. 
فاللغة أداة الأدب ، ومما سبق يتضح لنا أن الشاعرة تمتلك ناصية اللغة ، وتستخدمها بدقة في معانيها التي وضعت لها، فهي تتكئ على لغة معجمية خالصة في أغلب الأحيان. 
نواصل إن شاء الله في الحلقة القادمة ما انقطع من حديث عن جوانب أخرى في قصيدة الشاعرة بنونة بنت المك نمر.