لغات ولهجات - 6

د. محمد سعيد حسب النبي

 

إن اللهجة التي يتاح لها التغلب في أمة ما على بقية أخواتها أو على معظمها تصبح عاجلاً أو آجلاً "لغة الدولة" أو ما يطلق عليه اسم "اللغة القومية" أو "اللغة الفصحى" أو "لغة الكتابة"؛ فتعلم وحدها في مدارس الدولة، ويجري بها تدريس المواد المختلفة في معاهدها وتؤلف بها الكتب والصحف والمجلات، وتصدر بها المكاتبات الرسمية وغيرها، وتستخدم في مختلف نواحي الوعظ والخطابة، وتلقى بها الأوامر ويجري بها التخاطب.. وهكذا. وقد أشار علي وافي في كتابه اللغة والمجتمع إلى عدد من الأمثلة منها أنه قد ترتب على تغلب لهجة باريس على معظم أخواتها أن أصبحت هي "لغة الدولة" بفرنسا؛ وعليها وحدها يطلق الآن اسم اللغة الفرنسية. وهذا هو ما حدث عقب تغلب لهجة لندن بانجلترا ومدريد بإسبانيا واللهجة السكسونية بألمانيا والتوسكانية بإيطاليا، فقد أصبحت هذه اللهجات هي اللغات الرسمية، وعليها وحدها يطلق الآن اسم اللغات الإنجليزية والإسبانية والألمانية والإيطالية.

وتسلك لغات الكتابة في تطورها طريقاً خاصة تختلف عن الطريق التي تسلكها لغات المحادثة، ولذلك نرى لغة الكتابة مع اتفاقها في المبدأ مع لهجة المحادثة الغالبة، لا تلبث فيما بعد أن تختلف عنها في كثير من الشؤون، ولا تنفك مسافة الخلف تتسع بينهما حتى تستقل كل منهما عن الأخرى. فلغة الكتابة في فرنسا –كما يشير وافي- تختلف الآن عن لهجة المحادثة الباريسية اختلافاً غير يسير، وكذلك الشأن في انجلترا، فقد بعدت اللهجة الدارجة لأهل لندن بُعداً كبيراً عن اللغة الفصحى، حتى إن بعض العلماء قد ألف فيها معجمات خاصة مثل معجم أريك بارتروج للغة الدارجة لأهل لندن.
كما تتشعب لغة المحادثة إلى لهجات مختلفة تبعاً لاختلاف الأقاليم وما يحيط بكل إقليم من ظروف وما يمتاز به من خصائص، تنشعب كذلك لغة الكتابة أو اللغة الفصحى إلى شعب مختلفة تبعاً لاختلاف فنون القول التي تستخدم فيها، وما يمتاز به كل فن منها: الشعر، والنثر الأدبي، والخطابة، والقصة، والرسائل، والتاريخ، والقانون، وتدوين العلوم..إلخ. وذلك أن كل فن من هذه الفنون يختلف عما عداه في طبيعته وأغراضه البيانية، ومناهج الاستدلال فيه، ومقدار صلته بكل من الناحيتين الوجدانية والإدراكية، ومدى إقبال الجمهور عليه، وأثره في نفسه، وتلاؤمه مع اتجاهاته وحاجاته، ومبلغ نشاط المشتغلين به، وما يخترعونه فيه من اصطلاحات ويدخلونه من أساليب ويقتبسونه عن اللغات الأجنبية من مفردات وأفكار..وغني عن البيان أن الاختلاف في هذه الأمور وما إليها يؤدي حتماً إلى اختلاف كل فن من الفنون السابق ذكرها عما عداه في مفرداته وأساليبه ومعانيه وأفكاره، وطريقة علاجه للحقائق.. وما إلى ذلك. وقد تتسع مسافة الخلف بين هذه الفنون فتصبح لغة كل منها أشبه شيء بلغة مستقلة. وهذا هو المشاهد الآن في كثير من اللغات الراقية. فبمجرد سماع عبارة في اللغة العربية مثلاً يستطاع بسهولة معرفة الفن الذي تتصل به؛ ففي ضوء مفرداتها وأسلوبها ونظمها وتراكيبها وطريقة إبانتها عن الحقائق.. يستطاع بسهولة الحكم إن كانت شعراً أم خطابة أم كتابة رسائل أم مقالاً صحفياً أم بحثاً علمياً.. وهكذا.
ومن أهم شعب اللغة الفصحى ما يسمونه لغة الأدب وهي التي تستخدم في الأدب شعره ونثره. وتمتاز هذه الشعبة عن أخواتها بأن ما يتخذه غيرها وسيلة تتخذه هي غاية، أو توجه إليه على الأقل أكبر قسط من العناية. ففي جميع الشعب الأخرى (لغة العلوم، ولغة الفلسفة، ولغة التاريخ..) يتخذ الكلام مجرد وسيلة للتعبير عن الحقائق. أما في هذه الشعبة فيتخذ البيان نفسه غرضاً في ذاته ويوجه إلى تجويده أكبر قسط من المجهود. فأهم ما يقام له وزن في لغة الأدب هو جمال القول، ورقة الأسلوب، وحسن البيان، ورصانة اللفظ، وفصاحة الكلام، وبلاغة التعبير..إلخ.
وتنقسم الآداب نفسها إلى فنون كثيرة، أهمها الشعر وملحقاته، والنثر الأدبي والخطابة والقصة. ويختلف كل فن من هذه الفنون عن إخوته في طبيعته وموضوعاته، ومواطن استخدامه، ومقدار صلته بالوجدان والإدراك، ومبلغ نشاط المشتغلين به، وما يناله من تطور وتجديد، وما يرمي إليه من أغراض..إلخ. وقد ترتب على ذلك أن كان لكل فن منها خصائصه اللغوية ومميزاته في النظم والوزن، والتأليف الموسيقي، وجرس الألفاظ، وتركيب الجمل وطريقة الاستدلال، وشرح الحقائق، ومنحى الأسلوب.
وأهم ما يمتاز به الشعر عن غيره أنه يتجه أولاً وبالذات إلى مخاطبة الوجدان والعواطف لا الإدراك والتفكير، وأن غرضه الأساسي هو الإيحاء بالحقائق والإحساسات لا شرح المسائل وتقريبها إلى الأذهان. ولذلك يظهر فيها تعمد الغموض والميل إلى الإبهام، ويسيطر على أساليبه الخيال، ويكثر في عباراته التشبيه واستخدام الكلمات والعبارات في غير ما وضعت له عن طريق الكناية والمجاز، ويبدو فيه النفور من تحليل الحقائق وكراهة التعمق في الشرح والاستدلال. أما نظم العبارات في أوزان خاصة فليس شرطاً أساسياً في الشعر. فإن جنح كلام منظوم إلى الشرح والاستدلال والتعمق في توضيح الحقائق، وتغلبت فيه وجهة الدلالة على وجهة الإيحاء؛ فإنه لا يعد شعراً على الرغم من أوزانه وقوافيه. فالمتون المنظومة مثلاً في مختلف فروع العلوم لا تعد من الشعر في شيء.