دفع المراق في كلام أهل العراق

 إن لله في خلقه عاملين دائبين يخضع لحكمهما كل حادث في جميع أحواله وأطواره، ونشوئه واندثاره. وهذان العاملان هما الزمان والمكان، فلا شيء إلا وهو ربيب في حجريهما، ورضيع من ثدييهما، يشبّ بما غذياه، ويشيب بما رمياه. ومن ذلك لغات البشر، فإنها من أكثر الأشياء خضوعاً لحكم هذين العاملين في الرقي والانحطاط. وما اختلاف لغات الأمم إلا نتيجة من نتائج هذين المؤثرين.

ولقد تعاورت اللغة العربية أزمنة وأمكنة أوصلتها إلى ما هي عليه اليوم من اللهجة المعلومة التي تلوكها أفواه العامة لوكاً مختلفاً باختلاف الأصقاع، كلهجة أهل العراق، وسورية، والحجاز، ومصر، والمغرب، وغير ذلك من البلاد المأهولة بالمتكلمين بالعربية.
على أن تأثير الزمان والمكان لم ينحصر من اللغة العربية في تغيير لهجتها فقط، بل لقد عمّ مفرداتها أيضاً: فإن من مفرداتها ما قد اندثر ولم يبق له في كلام العامة من أثر، ومنها ما قد تغير لفظه أو معناه أو كلاهما تغيراً مختلفاً باختلاف الأماكن والأزمان. كما قد تكونت فيها من المفردات ما لم يكن من قبل موجوداً في متنها. ولما كانت هذه المفردات متكونة بحكم الزمان والمكان، كانت مختلفة أيضاً باختلافهما. ففي كلام العراقي منها ما ليس في كلام السوري، وفي كلام السوري ما ليس في كلام المصري؛ وهكذا.
غير أننا نجد لهذين المؤثرين في اللغة العربية أثراً واحداً قد عمّ جميع المتكلمين بها في جميع الأنحاء، وهو سقوط الإعراب منها. فهذا الأثر وحده هو الذي نجده عاماً في كلام العراقي والسوري والحجازي والمصري وغيرهم. وإنْ قال قائل: هل يعدّ هذا التغيير الحاصل في اللغة العربية انحطاطاً، أو يعدّ اصطفاء وارتقاء؟
قلنا إن الجواب على هذا السؤال لا يكون إلا بعد طول نظر وإعمال فكر، وليس من غرضنا في هذا الكتاب أن نخوض في مثل هذه المسألة العويصة، سوى أننا نقول: لا يجوز الحكم بأن كل ما حصل في اللغة من التغير هو انحطاط وتقهقر إلى الوراء، كما لا يجوز الحكم بأن جميع ذلك هو اصطفاء وارتقاء، لأننا إنْ قلنا بالأول كذّبنا قانون بقاء الأنسب؛ وإن قلنا بالثاني كذّبتنا البداهة ومن ذا الذي يستطيع أن يدعي بأن سقوط الإعراب من اللغة العربية مخالف لقانون بقاء الأنسب، وأنه ضروري لا بد منه للمتكلم بالعربية. مع أننا نرى العامة تتفاهم تمام التفاهم بكلامها الخالي من حركات الإعراب. فالأولى إذاً هو أن نترك الإفراط والتفريط فنقول بأن هذا التغير الحادث في اللغة منه ما يعدّ انحطاطاً ومنه ما يعدّ ارتقاء.
ومما لا مرية فيه أن للغة العامية مزية لا تنكر. وذلك أنها على علاتها جارية مع الزمان في مفرداتها، فهي تنمو كل يوم بالأخذ من غيرها بخلاف العربية الفصحى فإن جمودنا فيها واقتصارنا منها على ما نراه في معاجم اللغة قد رماها بالتوقف عن النمو حتى أصبحت متأخرة عن لغات الأمم الحاضرة على رغم ما اختصت به من المزايا التي خلت منها تلك اللغات.
ومهما كان فليس هذا البحث من موضوعنا هنا، فلنضرب عنه صفحاً. وإنماغرضنا في هذا الكتاب هو أن نضبط لغة العامة بما يلزم من الضوابط الصرفية والنحوية لأسباب:
الأول أن يكون ذلك كمقدمة لمن أراد أن يبحث بحثاً تاريخياً عن اللغة العربية وما طرأ عليها من الطوارئ التي أثرت فيها وتصنيف ما حدث فيها من التغييرات المختلفة باختلاف الأزمنة والأمكنة، والمقايسة بين حاضرها وغابرها ليعلم هل تلك التغييرات هي انحطاط في اللغة أو هي ارتقاء فيها.
الثاني، تسهيل التفاهم بين أهل البلاد المختلفة فيسهل على السوري مثلاً فهم كلام العراقي، وعلى العراقي فهم كلام السوري والحجازي، لكني لم أتكلم هنا إلا عن لغة أهل العراق فقط، وعسى أن يكتب يعض السوريين ما يسهل به على العراقي فهم كلام السوري. على أن لغة أهل العراق لا تخالف لغة أهل نجد والحجاز إلا قليلاً، ومخالفتها للغة السوريين أظهر من مخالفتها للغة الحجازيين، وقد اجتمعت مرة في حلب الشهباء برجال من أعيانها في مجلس حاشد فكان أحدهم إذا وجّه إلي الكلام غيّر لهجته وكلمني بما يقرب من العربية الفصحى، فأفهم كلامه ولكنه عندما يكلم غيري من الحلبيين بلهجتهم الخاصة لم أكن أفهم منه تمام الفهم، فكنت أستعيد منه بعض الكلام لأفهمه. وذهبت مرة في حلب أيضاً إلى السوق ولما أردت العودة إلى محلي تشابهت علي الطرق، فسألت بعض المارين: من أين الطريق إلى محل كذا، فقال لي: «سوي»، فلم أفهم ما أراد وكرهت أن أقول له: إني لم أفهم معنى «سوي».
الثالث، تنبيه الأفكار إلى أدبيات العوام، فإن الأدبيات الخاصة بالعوام موجودة عند جميع الأمم. وتختص أدبيات العامة بأنها هي الواسطة الوحيدة لمعرفة ما للسواد الأعظم من الأفكار والعادات؛ فإذا أردت أن تعرف ما هي عواطف السواد الأعظم من كل أمة، وما هي عاداتهم التي جروا عليها وأفكارهم التي يفتكرون فيها وأميالهم التي يميلون إليها فانظر في كلام  طغامها وأدبيات عوامها (…)
ولما كان هذا الكتاب خاصاً بلغة العامة من أهل العراق، وسمته باسم من كلام العامة فسميته «دفع المراق في كلام أهل العراق». والمراق كلمة عامية تقع في كلامهم بمعنى الافتكار في الشيء لأجل الخوف منه أو لأجل معرفته وحب الاطلاع عليه. وهي بالمعنى المذكور دخيلة في كلامهم، ولها أصل في العربية وهي جمع مرق (بتشديد القاف). يقال: مراقّ البطن: لما رقّ ولان منه. ومنها أخذ الأطباء لفظ المراقّية التي عندهم تطلق على نوع من الماليخوليا التي معناها الخلط الأسود منسوبة إلى مراق البطن، إلا أنهم يخففون ياءها فيقولون مراقية ويطلقونها على طرف من الجنون كالهوس. وقد أخذ الأتراك هذه الكلمة فحرفوا معناها ومنهم أخذتها العامة فاستعملوها بالمعنى المذكور آنفاً، وإنما تعمدت استعمال هذه الكلمة في اسم الكتاب ليكون الاسم مطابقاً لمسماه.
ونسأله تعالى أن يجعله نافعاً، آمين.
مجلة «لغة العرب»، العدد 2، آب (أغسطس) 1926

الشاعر الكشاف

للشاعر العراقي الشهير (1875ـ1945) سمة إبداعية أخرى، غير الشعر، قد لا تكون معروفة على نطاق عريض؛ خاصة وأن باعه في القصيدة تفوّق على نتاجاته الأخرى. تلك السمة هي الاشتغال على اللغة، من حيث كونها ظاهرة اجتماعية في المقام الأول، وانحيازه إلى التجديد في الفصحى والنحو والإعراب، والحماس لمقاربة اللهجات العامية العربية من زاوية تثمين خصائصها وتقريب وصولها إلى الجميع، العامة أسوة بالخاصة. مقاله، هنا، مثال على هذا النشاط الخاص، كما أن كتابه المشار إليه يتناول أصول اللغة العراقية وقواعدها وأحكامها، ومشاهير أقوالها وأمثالها السائرة، ومفردات ألفاظها ودلالاتها.
كذلك فإنّ كتابه «الشخصية المحمدية أو حل اللغز المقدس»، الذي كتبه سنة 1933 ولكنه لم يصدر في حياته، يمثّل محاولة بالغة الشجاعة في تصويب السيرة النبوية، وفي إضفاء السمات البشرية على أقوال وأفعال الرسول؛ بالإضافة إلى وضع مختلف التفاصيل على خلفية النصوص القرآنية، وتمحيصها بمنهجية موضوعية كانت نادرة تماماً في زمانها. يقول الرصافي في المقدمة: «وإني لأعلم أنهم سيغضبون ويصخبون ويشتمون، فإذا كنت في قيد الحياة فسيؤذيني ذلك منهم، ولكني سأحتمل الأذى في سبيل الحقيقة وإلا فليس لي أن أهتف باسمها ولا أن أدعي حبها كما يدعيه الأحرار، وإن كنت ميتاً فلا ينالني من سبابهم خير كما لا ينالهم منه خير فإن سبّ الميت لا يؤذي الحي ولا يضر الميت، كما قال محمد بن عبد الله عظيم عظماء البشر».
إلى ذلك كان شعر الرصافي منخرطاً في القضايا الوطنية، العراقية والعربية، ضدّ الانتداب والاستعمار خصوصاً؛ وكان مناصراً للفقراء، منشغلاً بالقضايا الاجتماعية؛ وخاض، أيضاً، معارك فكرية وأدبية تكشفت خلالها شخصيته المستنيرة الإصلاحية. وأما في النظرة إلى التاريخ، فإنّ حكمته الراديكالية سعت إلى كشف الحقيقة، وسارت هكذا: «أصبحت لا أقيم للتاريخ وزناً ولا أحسب له حساباً لأني رأيته بيت الكذب ومناخ الضلال، إذا نظرت فيه كنت كأني منه في كثبان من رمال الأباطيل قد تغلغلت في ذرات ضئيلة من شذور الحقيقة».

 

القدس العربي