شواعر السودان - 4

أ.د. محمد عبد الله سليمان

 

الشاعرة مهيرة بنت عبود

 عمت شهرتها آفاق السودان حتى أصبحت رمزًا للمرأة السودانية في الكفاح والشجاعة والوطنية. والدها الشيخ عبود شيخ قبيلة السواراب إحدى فروع الشايقية فعند دخول إسماعيل باشا غازيًا للسودان من بوابته الشمالية دعا قبيلة الشايقية لتسليم أسلحتم واستسلامهم في ظل اختلال موازين القوى حيث كان إسماعيل باشا يمتلك الأسلحة النارية بينما قبيلة الشايقية لا تمتلك إلا الأسلحة التقليدية فاحتار قائدهم وكان متردداً أن يدخل غمار هذه الحرب غير مأمونة العواقب، ولكن الشاعرة مهيرة لما رأت منهم ذلك قامت تحرضهم على القتال وتشد من أزرهم ، فتشجيع المرأة يفعل في الرجال فعل السحر لاسيما أنها ابنة شيخ من شيوخهم له مكانته وعزته وكرامته؛ فكان ذلك سببا في معركة كورتي في 4نوفمبر 1820م.
 وتحريض المرأة للرجال على القتال تقليد عربي قديم حيث كانت الشاعرة العربية تحض الرجال وتقف في شعرها منهم بين الإغراء والتحذير، وتمارس سطوتها وسلطتها كما فعلت هند بنت عتبة عندما التقى الجيشان في غزوة أُحد ، ودنيا من بعضهما، قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها، وأخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال، ويحرضنهم، فقالت هند: 
ويها بني عبد الدار      ويها حماة الأدبار
             ضربا بكل بتار
وتقول:
إن تقبلوا نعانق     ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارق     فراق غير وامق
 وهكذا فعلت مهيرة مع قائد الشايقية وجنوده وطلبت منهم أن يعطوا السلاح إلى النساء إن كانوا عاجزين عن القتال، وفي هذا استفزاز يؤجج مشاعر الرجال ويجعلهم يخوضون النار فقالت : 
خَلُّوكن براكــن الليلة وحدكــن
بتمشن تحــاربن ولا بتتبكــن
وتحدث مصطفى طيب الأسماء، في كتابه "دور الأدب في النضال الوطني"، قائلا:" ففي مجال الإثارة والاستنهاض نسمع شاعرتهم تنبه وجدان الملك وتوقظ غيرته وتطلق قوته من عقال حيرته وتفكيره ليهب دون ضعف ولا جزع " فتقول:
الــليلة العــقيد شوفنه متمسكن
وفــي قلب التراب شوفنه متجكن
الـرأي فـارقه لا بشفـي لا بمكن
ما تتعجبن ضيم الرجــال يمـكن
وتأخذ الحمية فرسان الشايقية فيشدون خيلهم ويلبسون درعهم ويخرجون للحرب والقتال، مهما تكن النتائج . وعند ذاك غنت لهم مهيرة ،ورددت النساء والفتيات من ورائها الغناء ، كأنهم خارجون إلى احتفال لا إلى حرب ، فدغدغت بغنائها العواطف ، وألهبت المشاعر ، حين قالت ":
غنيت بالعــديلة لــعيال شــــايق
البراشو الضعيف ويلــحقوا الضــايق
وسَخِرت مهيرة من إسماعيل باشا ووصفت جيشه بأنهم دجاج أو "جداد " بالعامية السودانية على حد قولها والدجاج سريع الفرار عندما يشعر بالخطر:
الليلة استعدوا وركــبوا خـيل الكــر
وقــدامهم عــقيدم بالأغــر دفــر
جنياتنا الأسود الليلــة تتنبـــر
يا الباشا الغشيم قول لجــدادك كـــر
ولما رأت منهم ما أعجبها، وسر بالها من شجاعة شرعت في مدح القائد عندما تدرع بحديده ، فوصفته بالدابي (الثعبان) الذي في أنيابه (السم الناقع) وهذا الوصف قديم عند العرب يقول النابغة الذبياني:
فبتُّ كأنِّي ساورتْني ضَئيلةٌ         من الرُّقْشِ في أنيابها السّمُّ ناقعُ
 ووصفت الفرسان بأنهم يملؤون العين ويفرجون الهم ، فقالت:
حسان بحــديده الليلــة إتلثـم
الدابي الكمن فــي جحـره شم الـدم
مامــون يا المــلك يا نقيع الســم
فـرسانا بكيلو العــين يفرجو الــهم
  يقول مصطفى طيب الأسماء في كتابه المذكور آنفا "ولا نحسب أن كلمات الشاعرة السودانية مهيرة بت الشيخ عبود ذهبت هباء بعد هزيمة الشايقية وانتصار إسماعيل بل بقيت جذوة متقدة في قلوبهم وقلوب السودانيين جميعا تعمل عملها في طريق الاستقلال والتحرر وإلا لضاعت كغيرها من شعر تلك الفترة الذي ضاع أكثره"  
نواصل