للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  المؤتمر الدولي التاسع للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

عن إشاعة أن العربية ليست جديرة بالفلسفة

أ. روجيه عوطة

 

ثمة إشاعة يطلقها الخاملون من وقت إلى آخر للحكم الأعمى على اللغة العربية، ومفادها: لا يمكن صناعة فلسفة بها. وفي العادة، تنم هذه المقولة عن الإعجاب المفرط بنصوص الفلسفة الأجنبية، وعن اللخبطة بين حالة النص الفلسفي العربي في أيامنا العجاف، والفلسفة العربية بشكل عام، وسرعان ما ينعطف ذلك الإعجاب، وتلك اللخبطة، على إستهتار بحكمة التراث وحصافته. وبدل أن يطرح أصحاب هذه المقولة سؤالاً يصرفهم من إلتباس الوضع عليهم، من قبيل: هل من الممكن صناعة فلسفة عربية خلاقة؟ ينتقلون، وببغية البقاء البليد خلف مشكلتهم، إلى لعن اللغة، وإعلان عقمها. 

فلا فلسفة مكتوبة بالعربية، ومجاورة للفلسفة الأجنبية، إذاً، اللغة إياها تتحمل كامل المسؤولية، يستنتج هؤلاء، ويضيفون على لعنتهم وإعلانهم، يعني إشاعتهم، أن اللغة عينها لا تساعد على "التفكير"، ولا "النظر" في أي شأن من الشؤون. وهنا، يقعون في إشتباه آخر، وهو مطابقة الفلسفة مع "التفكير"، ومع "التنظير"، بحيث أنهما، وفي ظنهم، من عملها، إلا أنها لا تقدر عليهما بفعل استخدامها للغةٍ "غير دقيقة" و"متقادمة" كالعربية. الإشاعة تجر إشاعة، ثم، تمضي كل هذه الإشاعات إلى خلاصة كاريكاتورية: "العقل العربي ليس بخير". وطبعاً، هو، وفي حال وجوده، لن يكون على ما يرام في ظل هذا الكم من الخبريات الباطلة.

من الممكن دحض تلك الإشاعة، ومعها، باقي مثيلاتها، عبر القول المختصر أن الفلسفة لا يجري إنتاجها بالإتكاء المطلبي على اللغة، بل إنه يحدث من خلال عملية الطلوع منها وفيها. فلعن العربية، وإعلان عقمها، مرده، أيضاً، صلة محددة معها، محورها هو الإستسلام لها، بما هي مجرد جسم موصد على قوته، وفي الوقت نفسه، الحقد عليها. فمروجو إشاعة عجزها يخضعون لها، وعندما يريدون التعبير عن مخالفتهم لها، لا يجدون طريقهم إلى ذلك سوى عبر السخط عليها. إلا أن الخضوع والسخط لا يؤديان سوى إلى مضاعفة إيصادها، وهذا، إما عبر منحها لحراسها، لشرطة نظافتها، التي تسهر على الإفراط في ضبطها وتفخيمها، وهذا، استمرار للخضوع، أو عبر الإقلاع عنها، ووضع المحكية، باعتبارها محض جسم منفصل عنها، في مقابلها، وهذا، استمرار للسخط. بالتالي، الفعلان يجعلان من اللغة دولةً، فصيحها يتأرجح بين الإستبداد البوليسي والإنهيار التكابري، ومحكيتها تتأرجح بين الإختزال الشتائمي وابتلاعها الإعلامي، فالفصحى يصيبها التخشب، الذي يغيرها إلى لغو معظم، والمحكية يصيبها هوس الإسماع والتواصل، الذي، وعلى إثره، تجهد في التبدل إلى صورة. وهكذا، تصير اللغة محكومة بالخفارة الألسنية، وبالشعبوية اللسانية على حد سواء.

كل هذا، أي جعل اللغة دولة، والإعلاء من ثنائية فصحىمحكية، مرةً، بالإبعاد التناقضي بينهما، ومرةً، بمزجهما توفيقياً، كل هذا يمتن صلة سيئة مع العربية، بحيث أن هذه الصلة، وما أن تولد أشياء ما، حتى تجهضها. الشعر، بوصفه روماً، أو إقتراباً من الوجود في اللغة، يجري ضبطه بالتفعيل ووزنه، أو بدفعه إلى التنازل عن أسلوبه لصالح إنشاء "الصورة". والأخيرة، وحين صار بلوغها سهل المنال (لنتذكر فورة الشعر في فايسبوك، وفورة الكتابات التي تمدحه أو تذمه)، تغيرت إلى حيز في اللغة، للروم إلى الوجود فيها. لكن، هذا الحيز مطبق، وعندما لا ينتقل الروم داخله إلى مرحلة أخرى، كالإنفراد مثلاً، لا سيما أن موضوع الإنفراد، أي الأسلوب، الذي كان لا بد من تطويره، قد تعرض للتضحية به، ينقلب إلى حالة أخرى، وهي النوم، ونشاطها هو السرد. 

فمن المعلوم أن إحدى العبارات من قاموس تعاطي المخدرات، خصوصاً تدخين الحشيش، هي السرد: أسرد يعني أحاول أن أثقب الصورة، التي سقطت فيها، وعندما لا أستطيع، أنام فيها، مطمئناً إلى أنني، وعلى الرغم من إطباقها عليّ، أشعر بالحضور في هذه الدنيا. وهكذا، بعد الشعر، الذي أدى إجهاضه إلى تعطيل الإنتقال من الروم إلى الإنفراد بالأسلوب، مثلما أدى إلى الإنزواء في الصورة، يبدأ السرد، وقد انقلب من محاولة لثقبها إلى  نوم فيها، وترافق مع شعور وهمي بالحضور في اللغة. وكالمتعاطون، الذين، وبريبتهم، وهذه من سمات شعريتهم، يشيرون إلى الخفارة الأمنية، محاولين التملص منها، كذلك، يفعل الروائيون، الذين، وفي أثناء سردهم، يشيرون إلى الخفارة الألسنية، من خلال بعض التركيب الشعري، محاولين التلاعب عليها بواسطة استدخال المحكية إلى جملهم. في المحصلة، يضحي الشعر بأسلوبه لصالح الصورة، والصورة تطبق، فتؤدي إلى السرد، الروم إلى الوجود في اللغة ينقلب إلى نوم في حيز داخلها، وعلى طول ذلك، تبقى اللغة دولة، لها بوليسها بالفصحى، ولها المعترضون عليها، مستخدمين المحكية، فالشرطة تحافظ على أمنها، وهؤلاء، يحافظون على إنزوائهم فيها. صلة واحدة باللغة، صلة سيئة، تجعلها دولة، والإعتراض على حراسها، يحولها إلى وسيلة تواصل.

حسناً، ولكن، ما علاقة هذه الصلة بالفلسفة؟ بدايةً، هذه الصلة هي التي تنتج إشاعة أن العربية ليست لغة جديرة بصناعة أي فلسفة، ومع أن هذه الإشاعة هي نبأ مكذوب، إلا أنه يسجل بغيةً ما، وهي ليست بغية الفلسفة بتاتاً، لأن الطريق إلى الأخيرة صلتها باللغة غير تلك الصلة السيئة، بل بغية الوجود في اللغة، الحضور فيها. وفعلياً، لا يمكن الإرتكاز على تلك الصلة، التي تمنع من فهم اللغة، من أجل أي وجود، أو حضور، في العربية، لأنها، في نهاية المطاف، تتوقف في حيز داخلها، ولا ترتبط بها سوى كأنها جسم موصد، إما يحتاج إلى الإصلاح، أو إلى الثورة، وذلك، لكي يفتح حراسها الباب إلى المعترضين عليها. وإلى أن يحصل ذلك، الكثير من السرد، بوصفه نوم، وتوهم. الإقلاع عن هذه الصلة ضروري، والإقلاع عن الإعتقاد بأن اللغة دولة هو ضروري للغاية من أجل الشروع في أي حديث عن صناعة فلسفة ما فيها، فإذا لم يحدث الإقلاع، ستستمر الإشاعات في طغيانها.
 

المدن

التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية