للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  المؤتمر الدولي التاسع للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

العربية لغة العصر.. ولكن بشروط

 

لا يختلف اثنان في أن واقع اللغة العربية الفصحى بين متكلميها لا يعيش أزهى أيامه، والمتشائمون يرون أنه في تردٍّ متواصل، ينذر باندثارها، وينطلق هؤلاء من أوضاع التعليم التي تسود في المدارس والجامعات العربية، فالطالب العربي - في الأغلب الأعم - يخرج من التعليم العالي، وهو بعدُ عاجز عن نطق جملة عربية صحيحة بشكل كامل، وعن فهم واستيعاب نص عربي، وهذا الضعف ينجم عنه ضعف استخدامه لها في الحياة العامة، سواء في بيئات العمل التي تحلّ اللغات الأجنبية محلّها أو العامية، أو في القراءة والمطالعة والاستزادة من العلم، حيث لا يشجعه مستواه على التعلم بها، أو في تلقي الأخبار والبرامج الإعلامية، التي أصبح الكثير منها يجنح إلى العامية، أما في البيت فلا أحد يطالبه بالحديث بالفصحى.

هذا الواقع الظاهر يخفي تحته واقعاً آخر فيه ما هو مبشر بمستقبل الفصحى، ما يقلل من قتامة الصورة بالنسبة لمن يدقق فيه، وحتى لا يبقى الأمر محصوراً في مخرجات التعليم العربي وحدها، وفي المتكلم أو المتلقي، نشير إلى أن قياس واقع اللغة الفصحى اليوم ينبغي أن يحيط بعدة جوانب أخرى ليست المتكلم/ المُستَقْبِل وحده، وهذه الجوانب يمكن حصر أهمها في: التعليم والإعلام وبيئات العمل المختلفة والأدب والبحث اللغوي وبرمجيات اللغة، فعلى أساس هذه الجوانب المختلفة يمكن أن نقيّم واقعها ونستخلص مدى تطورها أو ترديها.
 
يعاني التعليم في الوطن العربي من إشكاليات عامة على كل جوانبه، وأخرى خاصة باللغة العربية، فالإشكاليات العامة ترتبط في الغالب بانشغال أولياء الأمور بتوفير متطلبات الحياة عن المتابعة الدقيقة لتحصيل أبنائهم، وكذلك بكثرة المغريات الترفيهية التي تأخذ وقت الطالب، وتقلل من اهتمامه بواجباته المدرسية، ومنها على سبيل المثال، الألعاب الإلكترونية التي تحولت في حالات كثيرة إلى إدمان لدى الأطفال، ومنها أيضاً ضعف ميزانيات التعليم وضعف التخطيط التربوي في كثير من الدول العربية، ما ينتج عنه إهمال وفساد للتعليم خصوصاً التعليم العام، وانتهازية وغياب للمسؤولية في التعليم الخاص، أما المشكلات التعليمية الخاصة باللغة العربية فمنها، استئثار اللغات الأجنبية بالتعليم العلمي في مقررات أغلب الدول العربية، ما ينتج عنه إهمال ثلاثة أرباع طلاب المراحل الإعدادية والثانوية، وحتى الجامعية للّغة العربية، وقد كان هذا الاستبدال أيضاً واحداً من أسباب تردي التعليم بشكل عام، فالطلاب أبعد من أن يستوعبوا اللغة الأجنبية، ويتعلموا بها، ونتج ذلك ظاهرة أصبحت اليوم سارية في مدارسنا، وهي اضطرار مدرّس المواد العلمية إلى شرح دروسه بالعامية مع استخدام مصطلحات أجنبية، وبيّن ما لهذه الظاهرة من سلبيّات، فالطالب إذا ترك وحده لن يستفيد من المصادر الأجنبية، والمصادر العربية لا توجد، وإن وجدت فهو ليس معنياً بها.

من المشكلات الخاصة باللغة العربية أيضاً تخلف طرق تدريسها، التي لا تزال تعتمد على برامج صيغت في فترات استقلال ونشوء الدول العربية الحديثة، وإنشاء وزرات التعليم، وانطلقت في الغالب من كتاب «ألفية ابن مالك»، ولا تأخذ هذه المقررات بعين الاعتبار التطور الهائل الذي أصاب الفصحى خلال أزيد من قرن من النهضة، ونتج عنه واقع لغوي وأسلوبي جديد في الأدب والصحافة والثقافة والحياة العامة، ينبغي أن يُربط بالتعليم بشكل مباشر، وفي جميع مراحل هذا التعليم.
 
في الإعلام اضطلعت الصحف والإذاعات العربية والتلفزيونات منذ نشأتها بمهمات كبيرة في الحفاظ على مستوى من التعاطي مع العربية الفصحى وتثقيف المتلقين بها، واستفادت منها أجيال عربية متتالية، لكنّ انتشار الأمية ومحدودية التعليم في تلك الفترة من تاريخ الأمة العربية، وغياب الحرية في تصميم رسالة إعلامية تجذب المتلقي، كل ذلك حدّ من الاستفادة القصوى من تلك الوسائل الإعلامية، كما حدت منه أيضاً محلية تلك الوسائل الإعلامية بالنسبة لكل قطر عربي، ما أوجد ما يشبه قطيعة بين المتلقّين للفصحى في الدول العربية، وقد استطاعت الفضائيات التلفزيونية العربية التي دخلت على الخط منذ بداية التسعينات أن تكسر تلك القطيعة، وتوجد مستوى إعلامياً عاماً من الفصحى الحديثة، وأن تكرسه بين متلقيي الفصحى، لكننا لن نصل إلى نهاية ذلك العقد حتى تتحول تلك الفضائيات بفعل تأثير مقاصد الربح إلى مرتع خصب للعاميات العربية، وخاصة البرامج الحوارية، ولم يسلم من ذلك سوى نشرات الأخبار.
 
اتجاهات
 
أحدث عصر الإنترنت تأثيراً آخر على الفصحى في اتجاهين، الأول إيجابي، فقد أتاح للقارئ العربي فرصاً جديدة للتثقيف والتعليم الذاتي، وللتواصل مع أبناء جلدته والمتكلمين بلغته في أركان الأرض الأربعة. والثاني سلبي زاد من طغيان التعاطي بالعامية، وكرس أخطاء التحرير والإملاء وروج لأساليب كتابية لا تستقيم مع الفصحى، لكن إذا قبلنا أن عالم الإنترنت اليوم هو صورة عاكسة لحياة المجتمعات بكل تفاصيلها، وأن للتعاطي معه واستخدامه مستويات تبدأ من مستوى الأمي والجاهل لتصل إلى مستوى العالم المتخصص، وأن استخدام اللغة فيه ينقسم بدوره إلى تلك المستويات، فإن الأمر يبدو مقبولا.
 
لا تزال بيئات العمل أكثر القطاعات استعصاء على اللغة العربية الفصحى، رغم الدساتير والقوانين العربية التي تشدد على استخدام العربية في الإدارات العمومية والخصوصية، وقد ازداد ضعفه مع سياسات التحرير الاقتصادي وارتباط الأسواق المحلية بالأسواق العالمية التي تفرض لغاتها، ما يضطر الشركات المحلية إلى استخدام موظفين يتكلمون اللغة الأجنبية للالتحاق بالعمل، ويفرض عليها في النهاية أن تكون إدارتها بلغة أجنبية، ومع الوقت أصبح هذا العامل حائط صد لأصحاب الشهادات الذين تلقوا دراستهم بالعربية، مما اضطر المؤسسات التعليمية والمعاهد المهنية إلى إدخال التعليم الأجنبي في خططها التعليمية أو التحول إلى التعليم الأجنبي بشكل كامل.
 
على المستوى الأدبي لا شك أن الفصحى قطعت أشواطاً في حضورها وحداثة أساليبها الأدبية، وليس دخول أجناس أدبية حديثة وانتشارها واستقرارها في الأدب العربي إلا مظهراً من مظاهر ذلك التطور الأدبي، وعلامة من علامات نجاح العربية في التكيف مع تطور الحياة الحاضرة، والاستجابة لحاجات المجتمعات، وإيجاد أجناس أدبية جماهيرية مكتوبة بالفصحى كسرت النخبوية التي كانت سائدة فيه، وروجت الفصحى بين قطاعات شعبية عريضة، وهذا واضح اليوم في سيادة الرواية والأجناس السردية والمقالة والخاطرة الأدبية، تلك الأجناس التي تلقى رواجاً بين القراء، ما يعني أن مساهمة الأدب العربي في الحفاظ على الفصحى وتطويرها وجعلها في قلب الحدث بالنسبة لأبنائها كانت مساهمة عميقة وحاسمة.
 
أما في ما يتعلق بالبحث اللغوي، فإن الجامعات والمعاهد اللغوية العربية ومراكز البحث والمجامع اللغوية تقوم بجهود كبيرة في البحث والدراسة وقد دخلتها علوم اللسانيات الحديثة مبكراً، وأنجز علماء اللغة العرب المعاصرون بحوثاً لا يستهان بها في مجال تطوير النحو والصرف والبلاغة، ووضعوا نظريات لسانية للتعاطي مع راهن الفصحى، لكنّ كل ذلك يبقى حبيس أروقة الجامعات، وأدراج مراكز المجامع اللغوية ومراكز البحث، ولم يجد سبيلاً إلى الربط بينه وبين مستخدمي العربية، وكأن تلك البحوث يقوم بها أفراد لذات اللغة، وليس لمستخدم اللغة، فليس هناك استثمار حقيقي لنتائج تلك البحوث، سواء في مقررات وزرات التعليم، أو في مؤسسات الإعلام أو المؤسسات الإدارية، وهذه القطيعة هي اليوم مشكلة حقيقية، فمستخدمو اللغة لا يتلقون أي توجيه من أي نوع يمكن أن يوجه استخدامهم، على غرار ما يحدث في اللغات الحية اليوم في كثير من الدول، حيث تقترح المؤسسات العلمية والأكاديمية المعنية بدراسة اللغة بشكل دوري أساليب ومصطلحات وألفاظ جديدة، وتصوب أخرى، وتعمم مقترحاتها على مؤسسات التعليم والإعلام والإدارات المختلفة في أجهزة الدولية ليتم تبنيها، وهذا ولا شك ترشيد للّغة، وحفاظ عليها من أن تتحلل وتضعف، وإذا أضيف كون مشاريع البحث اللغوي هي مشاريع فردية لا تتلقى في الغالب أي دعم، وتنتهي بتوقف أصحابها، نستطيع أن نفهم لماذا البحث اللغوي لم يستطع اللحاق بواقع الاستخدام الراهن للفصحى.
 
إمكانات
 
إن الفصحى رغم كل أوجه القصور في تعاطينا معها في مجالات الحياة اليومية، لا تعيش أسوأ أيامها، وهناك مؤشرات كثيرة على إمكانات تطورها، وقابليتها للتكيف، وبوادر على تحسن حضورها في مشهد الحياة اليومية في عدة مجالات، رغم التحديات التي تواجهها، وهي لا تحتاج إلاّ إلى سياسة تنظيمية مشتركة ترشد جهود التطوير وتربط بينها جميعاً، لتجعلها تصب في اتجاه واحد، وتعمل على استفادة المتكلمين من نتائج تلك الجهود.
 
ميدان بكر
 
يبقى الميدان الأكبر والبكر للفصحى اليوم هو ميدان لغة البرمجة الحاسوبية، فهذا ميدان واعد ويتطور بشكل سريع وهائل، وتعرف لغة البرمجة بأنها عملية كتابة تعليمات وأوامر لجهاز الحاسوب لتوجيهه وإعلامه بكيفية التعامل مع البيانات أو كيفية تنفيذ سلسلة من الأعمال المطلوبة، وتتّبع عملية البرمجة قواعد خاصة باللغة التي يختارها المبرمج، وحين ظهرت الحواسيب كانت لغاتها أجنبية، وقد انطلقت برامج لغة الحاسوب العربية منذ نهاية السبعينات، أي مع دخول الحواسيب المنطقة العربية، وحاجة المستخدم العربي إلى أن يكلم الحاسوب بلغته التي يفهمها، فبدأت تظهر برامج تشغيلية معربة، انطلقت من مستوى إدخال الحرف العربي إلى الحاسوب ومن ثم كتابة نصوص عربية، إلى مستويات توفير القواميس العربية، وتوفير المعالِجات النحوية والصرفية، وبرامج تحرير النصوص العربية وبرامج الترجمة، وبرامج القراءة تحويل النص المكتوب إلى مقروء، والعكس، ويظهر تاريخ البرمجية العربية تقدماً كبيراً في لغة الحاسوب العربية، وكانت في البداية محتكرة لدى الشركات الأجنبية التي تسعى للربح، وتولاها مطورون أجانب ضعيفو المعرفة باللغة العربية، لكن الأمر تغير مع اشتداد المنافسة بين الشركات، وتوظيفها لمطوّرين عرب على كفاءة عالية في البرمجيات، ودراية عميقة بقواعد وأساليب اللغة العربية، وتحسن الأمر مع ظهور مطورين عرب مستقلين استفادوا من ما يوفره عالم البرمجيات الحرة ومفتوحة المصدر، الذي هو عالم مجاني يوفر لكل راغب فرصة تعلم البرمجيات، وأدوات تطوير وابتكار برامج خاصة به، فقد عكف كثير من المبتكرين العرب على إنجاز لغات برمجة عربية عالية الجودة، وبفضل ما تتيحه هذه البرمجيات الحرة ومفتوحة المصدر من آليات مشاركة الأفكار والخبرات بين المبرمجين فقد تسارعت وتيرة العمل، واقتربت هذه البرمجيات يوماً بعد يوم من التغلب على كثير من المشكلات المتعلقة بطبيعة الفصحى، وجعل الحاسوب يستوعبها، ويعالجها بكفاءة عالية، ما يبشر بكونها ستجعل الحاسوب في يوم ما يتكلم الفصحى بكفاءة عالية، وميزة استيعاب الحاسوب للفصحى تتجاوز الاستخدام الوظيفي العادي لمتكلميها، إلى كونها ستوفر معياراً نحوياً وصرفياً ونطقياً وأسلوبياً جاهزاً في كل حين يعيّر عليه مستخدموها كلامهم وكتابتهم، وتوفر طرقاً دائمة للتعلم الذاتي، أي أن الحاسوب سيصبح قادراً على تلبية كل حاجات المتكلم العربي اللغوية.
 
لكن عالم البرمجة الحاسوبية العربية مثله كمثل المجالات السابقة يحتاج إلى سياسية تنظيمية عربية عليا، وجهاز مركزي يسير العمل في هذا المجال ويوجهه، ويوفر له الدعم المادي للابتكار، ويصل بين خبراء اللغة وخبراء البرمجيات الحاسوبية من أجل التغلب على المشكلات الكثيرة التي تعاني منها برمجيات اللغة العربية.
 

بلد نيوز

التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية