ويفشل الكتاب المدرسي
أ. عبد الحكيم برنوص
مرة أخرى يفشل الكتاب المدرسي في تقديم صورة فضلى عن اللغة العربية إلى الطفل المتمدرس، و لا يمده إلا بصورة غير صحيحة ومنقوصة عن هاته اللغة و عن وصفها.
تستند الطريقة الجديدة لتقديم العربية إلى مريديها على تجميع مكوناتها كاملة في كتاب واحد، و هي طريقة تحرم التلميذ من تذوق العربية و تبعده عنها و تنفره منها، وتزيد من حجم اتهام هذه اللغة والافتراء عليها بالإغراق في الصعوبة و التقعيد.
ينبري جل هاته الكتب إلى التمهيد للظاهرة النحوية أو التركيبية بنصوص مصنوعة ـ معتبرة قرائية افتراضاـ وغير سلسة و لاعذبة بتاتا ) والاستثناء قليل (ثم يعقبها وصف للعربية و ليس استعمالها، فيجد المدرس نفسه في مواجهة سلسلة متتابعة من الدروس التي تبحث في اللغة و في بنيتها و نحوها وصرفها )التركيب و الصرف و التطبيق و الإملاء.....(.
يكاد يخلو جل كتب العربية من كل نص أدبي ممتع، وتكاد تغيب عن صفحاته النصوص الباهرة البارعة لكبار الكتاب ، الذين أبدعوا و أمتعوا، المغاربة منهم و المشارقة, أو كل من سحرته لغة البيان العذبة هذه. ولا نعثر في ثناياه إلا على فتات منثور هنا و هناك ، و نصوص باردة خشبية المعنى ، غير ممتعة إطلاقا. جدّ أصحابها المؤلفون في تأليفها و صنعتها. يقرؤها التلميذ مكرها ، و كأنه يمضغ التراب، و يتجرعها لا سائغة و لا ماتعة.
فيفشل كثير من كتب اللغة في تقديم العربية إلى مريديها، و تكتفي بتقديم قواعد مبتورة عن وصف اللغة، وبحوث مستقطعة عن بنيتها التركيبية و الصرفية و الإملائية. بحوث تبعد التلاميذ عن لغتهم و تزيد من عزلة الإثنين، اللغة و صاحبها. فيصبح التلميذ مطالبا بمعرفة أجزاء الكلام و العلاقات بين كلماته، بدل استعمال اللغة وتداولها.
ينساق التلاميذ مع نحو اللغة و صرفها، فيحذفون نون المضارع ويثبتونها ، و يقدرون حركات المقصور ويتوهمونها، و يتيهون بين لامات الجحود والتعليل والأمر و اللام المزحلقة الأخرى، ويثقل الأمر عليهم ويثقل على مدرس اللغة .
فتكون النتيجة ، أن يتأفف متعلمنا الصغير و يتبرم، ويطوي كشحا عن تعلم اللغة وعن أهلها ) سلوا الصغار و الكبار كيف ينظرون إلى معلم العربية، و اسألوهم كيف ينظرون إلى أصحاب الألسن الأخرى البراقة الملونة المبهرجة! ( ويبني بينه و بينها حاجزا نفسيا و نفورا شديدا معديا، حتى إذا سمع عن درس الإعراب ، ظنه حصة لأكل الحصرم و مضغه و بلعه رهقا.
وهكذا تسقط العربية في أعينهم، و يبنون بينهم و بينها جدارا نفسيا منيعا، فيرغبون عنها و ينصرفون إلى غيرها من ذوات الكتب الجذابة الفاتنة و الأناشيد المغناة و القصص ذات الحبكة الآسرة ، يجلبون ذلك من ألسن أخرى لأمم أخرى..)و كأننا أمة بدون تاريخ و لا حكي و لا سرد( فيرطنون بها، و يلوون ألسنتهم بهذه اللغات الضرائر، و سط تصفيقات الأهل و استحسانهم، يكاد الدمع يفيض من أعينهم، عندما تتوصل فلذة الكبد الصغيرة، إلى رطن أول كلمة بالفرنسية أو الإنجليزية أو الإسبانية أو الألمانية...فهاته هي اللغات حقا، و هذا هو المستقبل ، أما غير ذلك فتخلف و رجعية.
في هذا الجو الموبوء بالألسن ، يتداخل السياسي و التربوي و التاريخي و غيرها من العوامل التي أفرزت هذا الجو المشحون بالألسن يدفع بعضها بعضا. فالنظام التعليمي جبل يريد أن ينقض، بعد أن كثرت معاول الهدم و التزييف. فتمخض جبل الألسن فولد طريقة لا يستقام عليها أبدا . طريقة من التبخيس الممجوج، ظنوا به تحايلا أنهم يربطون اللغة بمحيطها الآسن منه، و جلبوا من قاع التلهيج مفردات لا تقدم و لا تؤخر ولاتغني و لاتفيد. و لا سبق في ذلك إطلاقا و لا فائدة، مهما روج المروجون.
فما الجديد الذي يقدمه الكتاب المدرسي، لمّا ينقل من محيط المتكلم بضع كلمات ، تثير في نفسه و نفس غيره سخرية و استهزاء. بدعوى ربط المدرسة بمحيطها. معجم يتداوله التلميذ جزافا صباح مساء، فلا يجد في ذلك فتحا جديدا ولا اكتشافا.
لعمري هي دعوى مخاتلة،أريد لسهمها أن يصيب اللسان العربي في مقتل. و تتبعوا سير أصحاب التلهيج والتعمية )من العامية ( و اقتفوا أثر قواميسهم اللاهجة ) من اللهجة (، و سعيهم الحثيث لركن العربية في المتحف و بين ثنايا المصحف الكريم. تجد أن الأمر عناد مكشوف، لإبطال سحر اللسان العربي، و إنشاء مكانه جوا مربكا و مضطربا من التلهيج والرطانة .
بين الفرد و العالم الذي يحيا فيه لغة ، وعن طريق هاته اللغة يعرف هذا العالم و يسميه، و ما تقدمه هذه اللغة أو هذا اللسان، فهو الموجود بالنسبة لصاحبه، وما لا يقدمه اللسان ينتفي و لا يوجد )وإن كان موجودا فعلا ( . وكلما زاد رصيد اللغة زادت المعرفة و توسع الأفق، و كلما اضمحل و نقص ، قدم عالما بسيطا لا يتعدى بضع مئات من الكلمات. وصراع الألسن صراع من أجل البقاء ، فتتسابق فيما بينها توليدا و ترجمة واشتقاقا ، والتوسع ضمّا لهذا العالم الواسع الذي ينبغي تغطيته و تسميته.
اللغة في وضعها استعمال ، استعمال في اللحظة و الآن ، يستعملها الفرد بينه و بين نفسه و بينه و بين العالم، وهي جواز المرور إلى هذا العالم. فترى الأمم الأخرى تسارع إلى إغناء معاجمها وضخ المستحدث من الكلمات المتناسلة، إغناء للثروة اللفظية لأصحابها و تعريفا لهم بما يوجد في هذا العالم المحيط بهم . فالألسن الحية غنية بمعاجمها وقوامسيها و أرصدتها من الألفاظ و الكلمات ، فتتوسط بين العالم و المتعلم ، لتقدم له عالما يشمل جل ميادين الحياة الواسعة .
|