للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  المؤتمر الدولي التاسع للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

القومية والقومية المضادة

أ. محمد السعد

 

حذر المفكر الأميركي الشهير صمويل هنتنجتون في كتابه (من نحن؟ المناظرة الكبرى حول أميركا)، من الخطر الذي يتهدد الهوية الأميركية وثقافتها ذات الجوهر الأنجلو- بروتستانتي، من تأثير الهويات الفرعية والأقليات المتنامية داخل صميم المجتمع الأميركي، التي صارت تهدد بانقسام لغوي وثقافي في المجتمع الأميركي.

كان العامل الحاسم المحدد للهوية الأميركية، يتركز في العقيدة الأميركية (The American Creed )، كما صاغها توماس جيفرسون في البداية وطورها آخرون من بعده، وهي الثقافة المنبثقة من الثقافة الأنجلو بروتستانتية، وتتضمن: اللغة الإنجليزية والديانة المسيحية والمفاهيم الإنجليزية لحكم القانون.
وقد عبر هنتنجتون عن قلقه العميق إزاء ما تتعرض له الوحدة الأميركية من تحديات وتهديدات قد تؤدي إلى حدوث تغيرات جذرية فيها، وبالتالي تغير التركيبة الداخلية لهويتها، مما يفرض على الأميركيين مسؤولية تجديد الإحساس بهويتهم القومية والقيم المشتركة للمجتمع الأميركي. ومصدر هذا التهديد يأتي بالدرجة الأولى من المهاجرين ذوي الأعراق والثقافات المختلفة، ومدى صعوبة اندماجهم في الثقافة الأميركية، وقد خلق ذلك نوعا من الازدواجية في الهوية ووجود هويات فرعية وجماعات لا يزال لديها حنين نحو بلدانهم الأصلية.
غير أن أحداث 11 سبتمبر -كما يرى هنتنجتون- قد أعادت هذه الهوية إلى المقدمة وجعلت المجتمع يلوذ بقوميته طلبا للأمان، فكلما شعر الأميركيون بأن أمتهم مهددة فإنه من المحتمل أن يزيد لديهم الإحساس بالهوية وأهميتها، وإذا ما تلاشى هذا التهديد فإن الهويات الفرعية سرعان ما تعود لتحتل الأولية من جديد، وهذا من وجهة نظر هنتنجتون سيؤدي إلى تآكل الهوية الأميركية، وإلى حدوث انقسامات لغوية وثقافية.
فطالما يرى الأميركيون أن أمتهم في خطر فمن المؤكد أن يتولد لديهم إحساس قوي بالانتماء للهوية القومية، والشعوب العربية في عصور سابقة قد واجهت نفس المصير في مواجهة القومية التركية في العصر العثماني، وما زال خطر التتريك والتمدد الثقافي التركي يهدد الشعوب العربية، فاليوم يحتفل الأتراك بافتتاح أول مدرسة تركية في تونس، والمهام المعلنة هي تدريس اللغة التركية وتحفيظ أجزاء من القرآن الكريم، أما المهام الحقيقية فلا شك لدينا بأنها تهدف إلى نشر الثقافة التركية العثمانية وسط المجتمعات العربية.
وفي مواجهة التتريك والحركات الطورانية التي تسعى لإحلال اللغة التركية محل العربية وترسيخ القومية التركية وجعلها ثقافة مشتركة في أجزاء الإمبراطورية العثمانية، تولد عند العرب الإحساس بالخطر وبوجود تحركات واسعة النطاق تهدد وجودهم، وهذا قادهم نحو الإحساس بقوميتهم وهويتهم العربية، وتشكيل حركات نضال موحد تجاه المارد التركي ومساعيه نحو طمس الهوية العربية.
وفي سبيل تتريك المجتمعات الراضخة لسيطرتها أنشأت الدولة العثمانية مدارس متعددة في قلب العالم الإسلامي والعربي مكة المكرمة، ومنها مدرسة الرشدية ومدرسة البرهان، واستقطبت لها المعلمين الأتراك، وهذا أمر طبيعي لدولة ذات نزعة قومية عميقة متسترة بالدين جوهرها التوسع والهيمنة.
كان العرب جزءا من الإمبراطورية العثمانية، وكانوا يعيشون ضمن إطارها، ولكنهم ما لبثوا أن وجدوا أنفسهم، نتيجة التطور وزيادة الوعي، ولمواجهة كل حملات التتريك والتذويب والإلغاء، أكثر وعيا لهويتهم المختلفة عن الشعوب الأخرى، ومن ضمنها الهوية التركية العثمانية، لذلك وجدت القومية العربية نفسها في مواجهة مع القومية العثمانية المتسترة بالدين وجها لوجه.
من هنا تبلورت القومية العربية بمفهومها المعاصر، وكانت تعني عمليا الوقوف في وجه التتريك والنزعة الطورانية التي كانت تهدف إلى طمس هويتهم، ثم تبلورت بشكل أوضح عندما نادت بإقامة الدولة والانفصال عن الإمبراطورية العثمانية.
لا شك أن الدعوة القومية دعوة معاصرة، وهي تختلف عن القومية التي سادت في أوروبا، فالقومية الأوروبية ذات طابع علماني نشأت وتجذرت في مواجهة الكنيسة وهيمنتها، بينما القومية العربية كانت بالدرجة الأولى في مواجهة الدولة القومية المتسترة بالدين، لذلك كانت القومية العربية في كثير من جوانبها مختلطة بالدين، فالدفاع عن القومية العربية هو دفاع عن اللغة العربية التي هي لغة القرآن الكريم والصلاة وغيرها من العبادات، وهي لغة التراث الإسلامي الضخم.
وبعد أن تحرر العرب من القبضة العثمانية التي جثمت على صدورهم قرونا طويلة، وجدوا أنفسهم أمام المستعمر الأوروبي مباشرة، فأخذت القومية العربية أطوارا ومنحنيات جديدة، حيث أخذت تجتر تاريخ الحروب الصليبية وتحرك النوازع الدينية، مما جعلها تأخذ الصبغة الدينية. فإذا كانت مواجهة القومية العربية ضد القومية التركية هي مواجهة لحماية اللغة والوجود العربي فإنها في مواجهتها مع الاستعمار الأوروبي تسلك سلوكا مغايرا ترمي للحفاظ على التاريخ الإسلامي والعربي على حد سواء.
والعرب اليوم وفي ظل الظروف الراهنة، وما يمرون به من محاولات خارجية لاختراق نسيج مجتمعهم، والتسلل إلى عمقهم الإستراتيجي والثقافي. فالقومية الفارسية من جهة والقومية التركية من جهة أخرى، وكلاهما يسعى للتوغل في محيط العرب الجغرافي والثقافي بشتى الوسائل والطرق، فإنه يتحتم على المجتمعات العربية تفعيل دور القومية والهوية للتصدي للأخطار المحدقة بهم من كل صوب، والتي ستؤدي بهم لمزيد من التفكك والانقسام.
 

الوطن

التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية