للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  المؤتمر الدولي التاسع للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

أخطاء الكتابة

د. منير لطفي محمد

 

أظنّنا متّفقين إزاء إطلاق صفة الحُمق على تلك الطاهية التي أعدّت المكوّنات وضبطَت المقادير وهيّأت الفرن  وأنضجَت وجبة شهيّة فاح ريحُها حتى داعب الأنوف وأسال اللعاب وهيّج المِعَد والأمعاء، ثمّ نثرت حفنة ملح على الطعام فصار أملح من ماء البحر وآل إلى صندوق القمامة! وأظنّنا أيضا متّفقين على أنّ للكتابة مطبخ يقوم عليه كاتب يحضِّر الأفكار، ويجهّز الموضوع، ويُعِدّ المَحاور، ثم يضبط حرارة الكلمات وضغط العبارات ونبض الفقرات، ليُنضِج مكتوبا شائقا يغذِّي العقل ويُؤنس الفؤاد ويُسيل للروح رضاب. وكما أَفسد الملحُ الطعام وذهب به إلى سوء المآل، فإنّ الأخطاء الإملائية تشِين صفحة المكتوب، فتُصيِّره أقبح من الجدري في الوجه والجذام في الأنف والبهاق في الجلد والحوَل في العينين. ومعلوم أنّ الإملاء فنُّ رسم الحروف والكلمات ضمن مقوّمات وأصول وضوابط وضعها الأقدمون أمثال أبو الأسود الدؤلي ونصر بن عاصم ويحيى بن يعمر والخليل بن أحمد؛ بغْية التعبير المتقَن وإزالة اللبس والإبهام بين المتشابهات من الكلمات. ومعلوم كذلك أنّ الأخطاء الإملائية تُفقِد النصّ قوّته وتُهدر طاقته، وتُظهر كاتبَه بمظهر الفقير في الثقافة الضعيف في الاطلاع، كما تُهدر حقّ القارئ وتَعتدي على عِرض اللغة.

 ومع أنّ معظم النصوص لا تخلو من هنات؛ بعضها يخصّ دلالة الكلمات وتركيبها واشتقاقاتها، وينجو منها الحاذقون الذين تَتلمذوا على الجاحظ في البيان والتبيين وابن قتيبة في أدب الكاتب والثعالبي في سحر البلاغة وأبي هلال العسكري في كتابيْه الفوارق اللغوية والصناعتيْن ، فضلا عن  المعاجم والقواميس التي سطّر الخليل بن أحمد أقدمها عبر معجم العين. وبعضها إعرابية تتعثّر في مرفوع أو منصوب أو مجرور أو مجذوم أو مِن الصرف ممنوع، ولا تَمرّ على مَن ثنَى ركبتيْه بين يدَي ألفية ابن مالك، وحجّ إلى سِفر الكِتاب لسيبويه، واستلم الركن اليماني  لخصائص ابن جنّي، وأناخ رَكْبه عند النحو الواضح للجارم وأمين.. إلّا أنّه مِن غير المتصوَّر أن يمتشق أحدُهم قلما وتُفرَد له المساحات، بحجّة أنّه من المشاهير  أو الوجهاء  أو الأثرياء  أو أصحاب الشهادات، ليتحفنا بأخطاء إملائية  هي مِن المعلوم بالضرورة في أبجديّات اللغة ومبادئها الأوّلية، والتي يمثّل الجهل بها أو التجاوز عنها والتساهل فيها خطأ جسيما يرقى إلى الخطيئة ويدخل في نطاق الفضيحة ويستحقّ الرجم بسبع مقالات؛ على قاعدة أنّ اللغة للكاتِب هي عصاه التي يتكئ عليها وبُردته التي يتدثّر بها وخيوطه التي ينسج منها، وأنّ الطيرانَ غير ممكن في غياب الرِّيش والزَّغَب، والبنيانَ غير وارد ولا مُحتمَل بدون الطوب والإسمنت والرمل والحديد!   
وفي هذا وقعَت عيني على مقال علمي طبيّ ضمن مجلّة ورقية شهرية شهيرة، ورقها فاخر مصقول وألوانها زاهية برّاقة، ومع أنّ موضوع المقال  طرق بابا مهمّا من الناحية المعرفية، وطرْحه كان شاملا فأجاب عن أدوات الاستفهام الرئيسة ماذا ولماذا وكيف؛ إلّا أنّ الأخطاء الإملائية الغزيرة التي تخلّلت السطور ذهبَت بكلّ فضيلة وأَوْدت بكلّ حسَنة، تلك الأخطاء التي شملت الخلط بين همزة الوصل والقطع، وعدم التمييز بين الهاء والتاء المربوطة، والمزج بين التاء المبسوطة والمربوطة، والإبدال بين حرفي الضاد والظاء، والعشوائية في وضع علامات الترقيم على طريقة  الحُفر التي  تُعيق السيْر بدلا من أن تكون علامات إرشادية تهدي السبيل. ولا أُفشي سرّا إن قلتُ أنّي قد أخفقتُ في تلمُّس الأعذار للمقال  بحسبانه مقالا علميا لا أدبيا، وللكاتب الطبيب الذي تمرَّس في اللغة الإنجليزية أثناء دراسته وضُرب بينه وبين العربيّة بسُور؛ حيث لم أَستسِغ الزعم بأنّ المدقّق اللغوي يتحمّل الوِزر، وأنّ العجلة التي تُمليها ظروف الصحافة تُغري بالخطأ.  كما لم أَقْو على القفز فوق الحقائق الدامغة التي تؤكِّد أنّ اللغة السليمة روح العلم وبنيان الفكر ولسان الحضارة، وأنَّ مَن تكلّم في غير فنّه أتى بالغرائب والعجائب، وأنّ المدقّق اللغوي لا يُحيي الموتى ولا يُبرئ الأكمه والأبرص من النصوص. أمّا ذريعة العجَلة التي تنطبق على الصحافة اليومية؛ فتنتفي عن مجلة شهرية ورقية مدّ لها الزمن الحبال وأرخى لها العنان، بغْية إفساح المجال للمراجعة والتدقيق والإتقان.
ولعلّ هذا يُسلِّط بقعة من الضوء على مكانة الكلمة المكتوبة التي أصبحت كلأ مباحا مع ظهور الشاشات المضيئة وتَغوُّل الفضاء الالكتروني، كما يُعيدنا إلى شروط الكتابة التي باتت تفتقدها الكثير مِن ثرثرتنا الورقية والالكترونية فاكتظّت بالمتردِّية والنّطيحة وما أكل السبُع من الكلمات... تلك الشروط التي لخّصها الروائي النّوبَليّ  (إرنست  همنجواي) في توفُّر الموهبة وحيازة الثقافة  وسعة الخيال والجرأة في البحث والحكمة في الاختيار والثقة في النفْس، مع ضرورة أن يكون الكاتب صاحبَ رسالة، وألّا يجعل المال محرابه، ويكتب بأسلوب يجمع بين الوضوح والسلاسة.  بينما  استحبَّ ابن قتيبة للكاتب أن يؤدِّب نفسه قبل أن يؤدِّب لسانه، ويهذِّب أخلاقه قبل أن يهذِّب ألفاظه، ويَصون مروءتَه عن دناءة الغيبة وصناعتَه عن شيْن الكذب، ويُجانب شنيعَ الكلام ورفَث المزْح قبل مجانبته اللحن وخطَل القول. هذا في الوقت الذي يرى الروائي الروسي الأمريكي فلاديمير نابوكوف، أنّ الكاتب الجيّد حكّاءٌ يُرفِّه ويُسلِّي، ومعلِّمٌ يربِّي ويعلِّم، وساحرٌ يُمتع ويُدهش. ولعلّ هذا هو الكاتب العظيم الذي قصده توفيق الحكيم ووصفه بأنه فاتح عظيم يفتح الممالك ويرفع عليها راية عبقريته.
على أنّ هذا لا يَعني سدّ باب الأفق أمام الأقلام الشابة،  ولا يُسوّغ احتكار الكتابة وبقاءها في قبضة حفنة من المثقّفين المتنفِّذين؛ ففي داخل كلّ شخص رواية أو قصّة أو حكاية أو خاطرة أو تجربة وفكرة وعاطفة، ولكنها لكي ترى النور في دنيا المكتوب، لا بد  أن تلمس قرص شمس المعرفة لتضيء، وتكتوي بنار القراءة لتَنضج، وتتضلّع من زمزم التأمّل والتفكّر لتُورق وتزهر وتثمر، بعد أن يَجري عليها مقصّ التهذيب والتشذيب الذي يحذف ويضيف ويعدّل ويصحّح. فالكلمة العليلة لا تداوي، والعبارة الكسيحة لا تواسي، والمقالة المعوجّة لا تُصلِح، والكِتاب الهزيل لا يلتمع له ذهن القارئ ولا يشهق له شهقة عجب ودهشة ، بل يَنفث منه حنقا ويزفر ألما ويتأوّه كمدا. وهذا ما عوّلَت عليه الكاتبة التركية (إليف شافاق)  في نصائحها  للكُتَّاب حين ذكرَت أنّ الكتابة موهبة بنسبة 12%، وحظّ بنسبة 8%، بينما النسبة الباقية (80%) قوامها الجهد والعرق والصبر والمثابرة...وكأنّ الكاتب المبدع لا بدّ أن يَروي كلماتِه بدم القلب ودمع العين وعرق الجبين، ولا مفرّ له مِن المرور على جسر الصداع وألم الفقرات وإجهاد العينين وخدر الرجليْن، بل والاكتئاب الذي عانتْه شافاق  وادَّعت أنه جزء لا يتجزّأ من رحلة الكتابة .
ولنا هنا أن نفرِّق بجلاء بين أخطاء الكتابة الدلالية والنحو صرفية والإملائية، والتي يبُوأ بإثمها الكاتب، وبين أخطاء الطباعة التي تقع على عاتق عمّال المطابع؛ فتَصدر عفْوا دون قصد، وتَكثر في أروقة الصحافة اليوميّة، ويَجري فيها حذف حرف أو استبداله أو تحويل المعجَم منه إلى مهمَل والعكس، وهو ما يقود دفّة المعنى إلى معنى مُغاير، ويُنتج أخطاء قد تكون بسيطة غير مؤثّرة أو مضحكة مسليّة أو فادحة فاضحة؛ وذلك حين يكون المعنى الوليد جارحا للكرامة خادشا للحياء، ووقتما يقع في حِجر نفر مِن عِلية القوم كالحكّام والأمراء والوزراء والوجهاء. وبالرغم من تَضاؤل هذه الأخطاء بعد دخول الآلات الرقمية الحديثة وسيطرة الحواسيب على مجريات الطباعة؛ إلّا أنّ صداها لا زال يتردّد في أرجاء الصحف والمجلّات والكتب. وبموجبها صار الرئيس السادات (مدمنا) لا (مؤمنا)، وشرعَت وزيرة الشئون الاجتماعية (تتبوّل) لا (تتجوّل)، وأضحى للجامعات (كِلاب) لا (طلّاب)، وبات المَطلب (تجريد ثياب القضاة) لا (تجديد شباب القضاة)، وغدَت الأُمنيات الطيِّبة هي (الشقاء العاجل) لا (الشفاء العاجل)! وفي الوقت الذي بدا فيه الرئيس الأمريكي فورد ضاحكا مستبشرا تجاه تلك الأخطاء المطبعية التي نالت منه، فإنّ الرئيس الروسي ستالين استقبلها بروح عَلَتْها الغَبَرة وأَرْهقتْها القَتَرة؛ إذْ أَقدم على فصل  المحرِّرين وسجْن رئيس التحرير لمجرّد أنّ عامل التنضيد أخطأ في صفّ حروف اسمه!
 

التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية