للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  المؤتمر الدولي التاسع للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

حق الشعوب في استعادة لغتها المسروقة

أ. سمير الزبن

 

اللغة كائن الحي، إذا أخرجتها من شروطها وأفقدتها وظيفتها الدلالية، تحوّلت إلى جثة هامدة، توجد في المجتمعات الإنسانية من دون فعاليّة، لأنها ببساطة تفقد روحها، حيث يتم لي عنق الكلمات، لتعبر عن وقائع بغير كلماتها المناسبة. حيث الكلمات تصوّر الوقائع، لكنها لا تؤدي المعنى والدلالة الحقيقية، ولا تكون معادلاً موضوعياً للواقع، فهي تُجبر على أداء مهمةٍ ليست مهمتها، وهنا لا نعني استخدام اللغة للتجميل، بل استخدامها للتزييف وإرغام الآخر على تصديق هذا الزيف، ليس بقوة الإقناع، بل بقوة السلاح. لا يقمع النظام الشمولي القمعي البشر والمجتمعات والاقتصاد والتعليم والأحلام والفن والأدب فحسب، بل يقمع اللغة أيضاً. وعندما يستمر النظام الاستبدادي في الحكم عقوداً طويلة، تظهر لغة الزيف والكذب المقعرة، كأنها اللغة الحقيقية التي يتطابق منطوقها مع واقع الحال التاريخي والسياسي والثقافي، لكنها، في الحقيقة، مثل قصة الملك العاري، قبل أن يوجد ذلك الطفل الذي ينطق بالحقيقة، ويكشف زيف الواقع وزيف اللغة، ويصرخ "الملك عارٍ"، حيث لا ثوب ولا مجد، الواقع هو الواقع، عار على الرغم من التزييف الطويل على مدى عقود، الذي ينجح، في بعض اللحظات، في تصوير الواقع على غير ما هو عليه، وتزييفه، واعتبار الزيف هو الواقع الواقعي والمعطى التاريخي النهائي، يبقى الواقع ينتظر الصرخة التي يعلن فيها أحد ما: "الملك عارٍ". 

يطول أو يقصر الزمن للوصول إلى هذه اللحظة التاريخية، لكن الوصول إليها لا بد منه، يأتي في اللحظة غير المتوقعة، يفاجئ الجميع، ليس "الملك العاري" فحسب، بل يفاجئ من يصرخ أن الملك عار أيضاً. كانت المنطقة بحاجة إلى صرخة محمد البوعزيزي، حتى نكتشف أن  
 العري فاضحٌ أكثر مما تصوّرنا. كانت صرخةً أعادت المنطقة إلى واقعها الحقيقي، وأعادت البشر إلى مكانهم في التاريخ، وقدرتهم على صناعته، واحتلال الميدان العام الذي هو ميدانهم، وليس ميدان أدوات القمع والقهر. ولأن كل الأشياء والقضايا والمفاهيم تذهب لتنتظم في مكانها الطبيعي والحقيقي، فإن اللغة تستعيد معانيها، وتذهب لتتطابق مع دلالاتها. اللحظة التي تذهب الشعوب لصناعة تاريخها، هي اللحظة التي تستعيد فيها اللغة روحها، لأن صناعة التاريخ لا تقوم من خلال الزيف والتزييف، بل تقوم من خلال مطابقة اللحظة التاريخية لدلالاتها. وهذه اللحظة، لا يمكن أن تتطابق مع صناعة التاريخ، من دون أن تتطابق اللغة مع دلالاتها ومعانيها، إذ تسقط دفعةً واحدة عقود من الزيف، وتدبُّ الروح في اللغة التي تمت إماتتها في عقود القمع والاستبداد. لذلك الشروع من جديد بإعادة إنتاج الزيف وتسويق الخطاب القديم، تخريب اللغة لتعبر عن واقعٍ لا يمكن القبول به، لن تنجح من جديد، فلم تعد أدوات القمع قادرةً على إخراس الناس. قد تفشل الثورات العربية، لكن الواقع الجديد، على الرغم من كل القسوة والجرائم التي نعيشها، لن يعود كما كان سابقاً. 
في المجتمعات الإنسانية، أيام قليلة، تشكل قطيعة تاريخية، تفصل بين زمنين لا يشبهان بعضهما، يمتد زمناً سقيماً فقيراً وبائساً لعقود، يصبح كأنه قدر لا مفر منه، يطول الليل، كل شيء في هذه المجتمعات يخبو ويخفت ويتقعر ويتعفن مع الاستمرار زمناً طويلاً في ظروف حياة راكدة تدمر كل شيء، السياسة والاقتصاد والمجتمع والثقافة والتعليم وحياة البشر، وحتى اللغة. يكاد البشر يستسلمون لهذا الواقع المؤلم، ويظهر كأن الألم بات جزءاً طبيعياً ومكوناً عادياً من مكونات حياتهم. في هذه اللحظات، يفاجئنا التاريخ بانعطافته الحادة، ويُظهر كم هو الاستقرار الكاذب هشّ، وكم هي الحياة التي تعيشها المجتمعات تفتقد إلى الروح، وأن كل شيء يتعفن من دون الحرية التي هي روح المجتمعات التي تعتقد سلطاتها أنها قايضت الاستقرار بالحرية، كمعادلة أبدية. 
يمرّ العالم العربي في لحظة الحقيقة، لحظة انعطافة تاريخية، لا يمكن أن يحيا بعدها كما كان 
 يحيا قبلها، بصرف النظر عن المآلات التي سيذهب إليها الحراك الذي رفع حرارة المنطقة حتى درجة الانفجار، وأخرجها من جمودٍ وجليدٍ طويلين، فالثورات قطيعة مع الماضي، وليست لحظة استمرار تاريخي، والتاريخ الذي استكنّا إليه واعتبرناه معطىً نهائياً، اكتشفنا أن عوامل القطيعة قد نمت داخل الركود الظاهري، نمت بعيداً عن أعين الاستبداد وأدوات قمعه التي تحبس على الناس أنفاسها. يحاول الاستبداد أن يصنع التاريخ على هواه، لكن المجتمع هو الذي يصنع التاريخ، كما يجب أن يُصنع لا على هوى الاستبداد وأدوات قمعه، لا حسب رغبات دعاة صناعة التاريخ. يسلك التاريخ طرقاً وعرة وملتوية، "مكر التاريخ" حسب تعبير هيغل، ولكن في النهاية يصنعه البشر الذين يشكلون المجتمعات، والذين من حقهم أن يكونوا أصحاب بلدانهم، وليسوا رعايا وعبيد فيها. 
تحولت اللغة العربية، في الخطاب السلطوي، إلى لغةٍ خشبيةٍ مجوّفةٍ، لا معنى لها، من الصعب الاستماع لها، لأنها سقيمة، فقدت دلالاتها، تحتفل بنفسها، ولكنه احتفال بلا معاني، لغة إنشائية، تحول الهزيمة إلى نصر، والفقر إلى غنى، والسياسة إلى موضوع إنشاء في حب الحاكم، والاقتصاد إلى منح من الحاكم للشعب المتسوّل. في لحظة القطعية، يخرج البشر الذين لم يعودوا يقبلون العيش بالطريقة السابقة باحتجاجاتٍ واسعة إلى الشارع، يحتلون الميدان العام بالمعنى السياسي والثقافي واللغوي، ويجلبون لهذا الميدان لغةً جيدة، ليس على مستوى السياسة 
 فحسب، بل على مستوى التخاطب، وحتى على مستوى السخرية، لغة جديدة، حية، خارجة من الحدث الطازج، لغة من روح البشر، مرويّة بدمائهم، لا تشبه اللغة التي عرفناها عقوداً، يقلبونها رأساً على عقب. يعود البشر إلى الميدان العام الذي تم إبعادهم عنه وطردهم منه، بالعنف والقمع العاري، لا ليستعيدوا حقوقهم ورفع المظالم التي عاشوا في ظلها طويلاً فحسب، بل يعودون ليحتلوا اللغة أيضاً، لغتهم، لغة الحياة التي أفقدها الاستبداد معناها، ليعيدوا إليها العمق والمعنى والدلالة من دون تلعثم. ولا شك أن الدماء التي سالت في المنطقة لن تذهب هباء، وأن فعلها سيستمر في هذه المجتمعات، على الرغم من عودة الصوت العالي للاستبداد السقيم، ولكنه عاد إلى حينٍ فقط.
 

العربي الجديد

التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية