للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  المؤتمر الدولي التاسع للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

العربية في بيت المقدس

أ.د. ياسر الملاح

 

إن ما نعنيه ببيت المقدس، في هذه المقالة، هو فلسطين، وهو من باب تغليب الجزء على الكل لما لبيت المقدس أو القدس من مكانة في قلوب العرب والمسلمين بعامة، وفي قلوب الفلسطينيين بخاصة. أما عن عروبة فلسطين فإن الحديث عنها هو من باب تثبيت الثابت المستقر، فليس هناك أي شك في هذا الأمر تاريخيا، لأن القبائل الكنعانية التي سكنت فلسطين منذ زمن بعيد، قبل الميلاد، وكما يؤكد هذا المؤرخون القدماء، هي قبائل عربية جاءت إلى فلسطين من الموجة السامية العربية القديمة جدا، أي قبل الميلاد، وهي الموجة التي يطلق عليها المؤرخون الموجة الآمورية- الكنعانية، فاستوطن الآموريون سوريا وشرقي الأردن، واستوطن الكنعانيون فلسطين. ويرى بعض المؤرخين أن الساميين طبقات متتابعة من العرب وان اختلفت أسماؤهم، وأن بلادهم جزيرة العرب، ظلت منذ العصور المتناهية في القدم خاصة بهم، كما يرى عدد من ثقات المؤرخين الأوروبيين أن العرب والساميين شيء واحد، ويرى أحدهم وهو سبرنجر Sprenger أن جميع الساميين عرب. 

 ولا يلغي هذا الحكم العام على عروبة فلسطين وفودُ أقوامٍ من غير العرب، كالفرس والرومان والهكسوس واليونان وغيرهم، واستيطان بعضهم في فلسطين أزمانا طويلة حتى أضحوا جزءا من التركيبة السكانية فيها.
وعلى الرغم من هذا الحكم القاطع في موضوع عروبة فلسطين، والذي لا يحتاج إلى أي مدعمات منطقية أو تاريخية، فإنها، أي فلسطين، لم تبتعد عن الاحتكاك بالقبائل العربية في تاريخها القريب من العصر الإسلامي، فمن المعروف أن الغساسنة، وهم من عرب الجنوب، قد استقروا في بلاد الشام، وأن المؤسس لوجودهم هو جفنة بن عمرو، ولذلك يطلق عليهم آل جفنة، وأن أحد ملوكهم وهو جبلة غزا فلسطين سنة 497 للميلاد، وخلفه ابنه الحارث بن أبي شمر الذي لعب دورا كبيرا في محاربة الفرس وعرب العراق. ومعروف أن المثل العربي المشهور:" ما يومُ حَليمة بسُر"، إنما كان نتيجة الصراع بين المنذر بن ماء السماء أمير الحيرة في العراق، وبين الحارث الغساني الذي قتل خصمه المنذر في معركة انتصر فيها عليه  بالقرب من قنسرين سنة 554 ميلادية. 
وقد وفد على الغساسنة نفر من شعراء العربية المشهورين أمثال النابغة الذبياني، ومن شعره فيهم، قوله :
     إذا ما غزوا بالجيش حَلق فوقهم     عصائبُ طير تهتدي بعَصائب
     ولا عيبَ فيهم غير أن سُيوفهـم      بهن فلولٌ من قِراع الكتائـــب
وممن وفد على الغساسنة كذلك الشاعر العربي المشهور حسان بن ثابت الذي وفد على عمرو بن الحارث الأصغر أحد أمراء الغساسنة فقال فيه حسان :
     أولادُ جَفنة حول قبـْـرِ أبيهـــمُ      قبرِ ابنِ مارية الكريم المُفضِلِ
     بيضُ الوُجوهِ كريمة أحْسابهمْ      شمُ الأنوفِ من الطرازِ  الأوّلِ
وعليه يمكن الذهاب إلى أن فلسطين لم تكن بعيدة عن العربية التي وفدت إليها مع الفاتحين، فقد كانت حركة القبائل من الجزيرة والشام متيسرة إلى فلسطين قبل الفتح العربي الإسلامي، وهذا ما يسَّر استقبال العربية فيها استقبالا حسنا. ولم تكن اللغة الكنعانية السامية بعيدة كثيرا عن العربية السامية كذلك والقادمة من الجزيرة العربية، ولعل عرض أنماط من هذه اللغة الكنعانية التي استقرت على ألسنة الناس في فلسطين، وموازنتها بالألفاظ العربية الفصيحة تيسر الفهم والشرح لهذه العلاقة اللغوية. فلنأخذ مجموعة من المفردات التي تتفق عليها العربية والكنعانية ليتضح الأمر:
    العربية الكنعانية                           العربية القرشية 
     صيدون                                       صيد
     جشور                                         جسر
     دقق                                           دقيق
     قرت                                          قرية
     قدموس                                        قديم
     طيابا                                           طيب
     داب                                           دابة
     كتن                                           كتان
     يشمع إيل                                     إسماعيل
     لاهام                                          لحم
    أوتيك                                         عتيق
    دامور                                         تمور
    بصّة                                          بصّة
    باراق                                        برق
   حمور                                        حمار
   شمش                                         شمس
   لسن                                           لسان
   نحس                                          نحاس
ويوجد قائمة طويلة على هذا الشكل مما يدل بوضوح على العلاقة الوثيقة بين اللغتين في البعد القاموسي اللفظي. أما الأبعاد اللغوية الأخرى كالبعد الصوتي والبعد الاشتقاقي والبعد النحوي والبعد الدلالي فمن المتعذر الآن أن نعقد فيها موازنة بين اللغتين لما تحتاجه هذه الموازنة من مواد تساعد على القيام بها.
ومن الألفاظ الكنعانية التي ما زلنا نستعملها إلى اليوم في لغتنا العربية : جبل، لون، أم، أب، أخ، ثاني، ثلاث، أربع، سبع، ثمان، تسع، راس، يد، بيت، أرض، تين، تحت، كلب، قبر، وغيرها، لأنها كانت اللغة المحكية في فلسطين قبل وفود العربية الجديدة عليها بقرون. كما أنها كانت، أي الكنعانية، لغة القبائل في سيناء وشرقي الأردن.
وقد زاحمت الآرامية الكنعانية حينا من الدهر في فلسطين، وما زالت كلمات كثيرة منها مستعملة، حتى اليوم، أسماء لمناطق بعينها في فلسطين. ويمكن القول بأنه تناوبت في فلسطين منذ أقدم الأزمنة حتى اليوم ثلاث لغات هي الكنعانية والآرامية ثم العربية المعروفة. ومن الألفاظ الآرامية الذائعة التي عربها العرب واقتبسوها من السريانية وما زالت راسخة في فلسطين حتى يومنا هذا أسماء لمدن أو قرى مثل :
إذنا، و بتير، وبديا، وبربرة، وبرقة، وبلعا، وبيت جبرين، وبيت جن، وبيت لاهيا، وبيتا، وحجة، وحوارة، ودنابة، وصرطة، وصفد، وصرفند، وسلوان، وزيتا، وطلوزة، وعزون، وقبية، والناقورة، وغيرها.
وعندما كان الفتح الإسلامي لفلسطين أصبحت مع توالي الأيام اللغة العربية، لغة القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، والشعر العربي الفصيح من الجاهلي إلى الإسلامي بمختلف عصوره، اللغة الوطنية السائدة في فلسطين، وما زالت كذلك حتى اليوم. 
ولم يعرف عن فلسطين في تاريخها الجديد، أي منذ الفتح الإسلامي حتى اليوم، تقاعس في العناية بالعربية عناية انتماء وهوية، ولذلك يمكننا التحدث بقوة عن ازدهار اللغة العربية في فلسطين لأن الحركة العلمية والحياة الأدبية فيها سادت على نحو من التوازي مع شقيقاتها المشهورات في هذا المجال. ومما شجع على هذا الازدهار للعربية اعتناء الأمويين ببيت المقدس اعتناء خاصا حيث من المعروف عنهم أن بيعة الخليفة الأموي الجديد إنما كانت تعقد في رحاب المسجد الأقصى.
 ولعل الفترة الوحيدة التي تجمدت فيها أحوال هذه الحركة العلمية في بيت المقدس، ومن الطبيعي أن يترك هذا أثره على العربية، هي فترة الحروب الصليبية. فالصليبيون، عندما غزوا بيت المقدس، وأسسوا فيها مملكة أطلق عليها في التاريخ : مملكة بيت المقدس، لم يكونوا أناسا متعلمين بل كانوا فرسانا همجا ويعتقدون أن القراءة والكتابة لا تعنيهم في شيء. يقول رنسيمان في كتابه (تاريخ الحروب الصليبية) :" الواقع أن الحياة العقلية في الشرق الفرنجي كانت مخيبة للآمال، إذا جرت مقارنتها بما حدث في صقلية وإسبانيا ". ويعلل هذا الركود في الحياة الفكرية بالطبيعة الحربية التي كانت تهيمن على الغزاة والمحتلين من الفرنج الصليبيين. 
ويعلل عدد من الذين درسوا فترة الغزو الصليبي من المستشرقين ضعف الحركة الفكرية وركودها بانصراف هؤلاء الغزاة إلى الاهتمام بالشؤون الحربية والتجارية، وكأن المجتمع الإفرنجي الذي جاء إلى الشرق غازيا ومحتلا كان يتكون من العساكر والتجار، وعليه فمن الطبيعي أن يكون اهتمام هؤلاء منصبا على الأبعاد الحربية والتجارية. وذهب عدد من هؤلاء الباحثين إلى أن الحياة العقلية والحياة الثقافية في ظل المملكة اللاتينية في بيت المقدس لم يكن لها وجود، وقد يفسر هذا قلة العلماء والمتعلمين بين الصليبيين وكثرة الذين لا يعرفون القراءة والكتابة منهم. 
ولتتضح الصورة عن المستوى الحضري في بيت المقدس، قبل الغزو الصليبي، نتوقف عند بعض الآراء للرحالة الذين سجلوا زياراتهم إلى فلسطين. فقد وصف ناصر خسرو البيمارستان الذي كان في بيت المقدس بأنه عظيم وعليه أوقاف طائلة، ويصرف لمرضاه العلاج والدواء وفيه أطباء متخصصون يأخذون رواتبهم من الوقف. كما كان فيه أقسام مختلفة، كل قسم يعالج مرضا معينا، وفيه قسم للرجال وآخر للنساء، كما كانت له صيدلية يشرف عليها صيدلي، ويشرف على هذا كله ناظر البيمارستان. ويعكس هذا الوصف مستوى علميا متقدما.
وكان في بيت المقدس معاهد علمية، منها المدرسة النصرية أو الغزالية نسبة إلى العالم نصر المقدسي والعالم الغزالي أبي حامد صاحب (إحياء علوم الدين)، وعلماء يفدون إليها من مختلف أصقاع العالم الإسلامي. ومما ذكره ابن العربي في رحلته التي قام بها إلى بيت المقدس أن فلسطين كانت تعج بالعلماء من أهلها ومن الوافدين، فدعاه هذا إلى أن يطيل الإقامة فيها. وقد كثرت المدارس المرتبطة بالمذاهب الفقهية كالمدرسة الشافعية والمدرسة الحنفية، وكذلك المراكز الفكرية في ساحة الحرم القدسي الشريف. ومما ذكره ابن العربي عندما لقي العالم الطرطوشي:"...وانفتح لي به إلى العلم كل باب، ونفعني الله به في العلم والعمل، وتيسر لي على يديه أعظم أمل، فاتخذت ببيت المقدس مباءة، والتزمت فيه القراءة، لا أقبل على دنيا، ولا أكلم إنسيا، نواصل الليل بالنهار، وخصوصا بباب السلسلة".  
أرأيت إلى هذا الإقبال المنقطع النظير على حب العلم والانقطاع له!!؟؟ ويعكس هذا الوصف مناخا مريحا للدراسة والحوار والتنقل بين المتحاورين، فكل واحد يدلي بدلوه في المسائل العلمية الفقهية وغير الفقهية، وينتقل من حلقة إلى أخرى في جو من الاحترام المتبادل والإصغاء المتبادل... ألا يوحي هذا بأن المسجد الأقصى كان، في تلك الفترة، وقبيل تعرضه للبربرية التي كانت من الحروب الصليبية جامعة منيرة تتسع لكل وافد من العالم الإسلامي وأطرافه الواسعة المترامية في جهات الأرض كلها، من خراسان إلى الأندلس إلى مصر إلى العراق إلى الشام إلى الجزيرة العربية ثم إلى فلسطين؟؟!!
وإننا لنتساءل عن اللغة التي كانت تكتب بها الكتب، وتدار بها المحاورات والمناقشات في هذه الحلقات العلمية المقامة على ساحات المسجد الأقصى، لا ريب في أنها العربية، عربية القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وعربية الأدب العربي العريق، أليس هذا مؤشرا على أن عربية بيت المقدس كانت الفصحى، والفصحى فقط، وإن هذا بيان للناس، ناس هذا العصر الذي نحيا فيه أن العربية ما عجزت يوما أن تكون على ألسنة العلماء، وما عجزت أن تدار بها الحوارات والنقاشات، في الجامعات وفي غير الجامعات!!! وما عجزت الألسنة المشربة بالتربية اللغوية الرشيدة عن البيان والتحدث بهذه اللغة الفصحى ( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) ق 37 صدق الله العظيم. 
كانت هذه المقالة مقدمة ضرورية لقافلة من المقالات التي ستتناول حياة العربية والحركة العلمية المصاحبة لها في بيت المقدس سائلا الله أن يُعينني على هذا في المستقبل القريب إن شاء الله.       
 

التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية